للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَيَنْقَطِعُونَ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ هَذَا غِذَاؤُهُ بِالتَّنَعُّمِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَقَدْ مَضَتْ حِكْمَةُ الْحَكِيمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ هَذَا الْبَدَنَ لَا قَوَامَ لَهُ إلَّا بِقُوتٍ، فَالْقُوتُ الْمَعْنَوِيُّ الَّذِي حَصَّلَهُ هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَغْنَاهُ عَنْ الْقُوتِ الْحِسِّيِّ، وَهُمْ لَمْ يُحَكِّمُوهُ، وَتَرَكُوا الْقُوتَ الْحِسِّيَّ، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ تَكَفَّلَ لِهَذَا الْهَيْكَلِ بِرِزْقٍ لَا قَوَامَ لَهُ إلَّا بِهِ قَالَ: وَهَذَا الرِّزْقُ الَّذِي تَكَفَّلَ بِهِ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مَحْسُوسًا فَتَارَةً يَكُونُ مَحْسُوسًا وَتَارَةً يَكُونُ مَعْنَوِيًّا أَوْ كَمَا قَالَ، وَلِأَجْلِ الْجَهْلِ بِتَحْصِيلِ هَذَا الْقُوتِ الْمَعْنَوِيِّ حَصَلَ لِبَعْضِ مَنْ يَتَعَانَى كَثْرَةَ الْمُجَاهَدَةِ أَشْيَاءُ رَدِيئَةٌ مِثْلُ الْعَرْبَدَةِ أَوْ الْجُنُونِ أَوْ النَّشَّافِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَمَنْ تَأَدَّبَ بِهَذِهِ الْآدَابِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْخَلْوَةِ يَغْلِبُ الرَّجَاءُ أَنَّهُ مِنْ النَّاجِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّهُ قَدْ كَانَ دَخَلَ فِي مُجَاهَدَةٍ بِنِيَّةِ أَمَدٍ مَعْلُومٍ فَلَمْ تَقْدِرْ نَفْسُهُ عَلَى إتْمَامِ الْمُدَّةِ، وَضَاقَ ذَرْعُهُ بِذَلِكَ قَالَ: فَأَرَدْت أَنْ أُفْطِرَ ثُمَّ حَصَلَتْ لِي عَزِيمَةٌ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ فَلَمَّا أَنْ شَعَرَتْ نَفْسِي بِهَذِهِ الْعَزِيمَةِ غُشِيَ عَلَيْهَا فَرَأَيْت فِي تِلْكَ الْغَشْوَةِ كَأَنَّ إنْسَانًا يُطْعِمُنِي فَأَكَلْت حَتَّى شَبِعْت، ثُمَّ سَقَانِي فَشَرِبْت حَتَّى رُوِيت، ثُمَّ اسْتَفَقْت، وَأَنَا شَبْعَانُ رَيَّانُ فَقُمْت أَغْتَنِمُ الطَّاعَةَ مُبْتَدِرًا بِقُوَّةٍ وَنَشَاطٍ فَفَرَغَتْ الْمُدَّةُ، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ، ثُمَّ بَقِيت بَعْدُ مُدَّةً أُخْرَى كَذَلِكَ، وَلَوْ بَقِيت عَلَى ذَلِكَ بَقِيَّةَ الْعُمْرِ لَرَأَيْت أَنِّي لَا أَحْتَاجُ إلَى غِذَاءٍ بَعْدَهَا لَكِنْ رَجَعْت إلَى الْغِذَاءِ خَوْفًا مِنِّي عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ إذْ إنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِالْغِذَاءِ.

هَذَا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ تَمَادَى عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ لَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ، وَعَرَفَهُ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَبَرَكَةُ الْخَلْوَةِ لَا تَنْحَصِرُ، وَلَا تَقِفُ عَلَى حَدٍّ يُنْتَهَى إلَيْهِ كُلٌّ

<<  <  ج: ص:  >  >>