للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِجُلُوسِ مَنْ يَأْتِي إلَى التَّعْزِيَةِ فَيَتْرُكُونَهَا كَذَلِكَ حَتَّى تَمْضِيَ سَبْعَةُ أَيَّامٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُزِيلُونَهَا. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ زَرْعِ شَجَرَةٍ أَوْ صَبَّارَةٍ أَوْ رَيْحَانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَبْرِ وَيُعَلِّلُونَهُ بِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْضُرُ مَوْضِعَ الْخُضْرَةِ تَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى.

وَالثَّانِي: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَنْ مَرَّ عَلَى قَبْرَيْنِ، وَهُمَا يُعَذَّبَانِ فَأَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ فَجَعَلَ نِصْفَهَا عَلَى أَحَدِ الْقَبْرَيْنِ وَالنِّصْفَ الثَّانِيَ عَلَى الْآخَرِ، وَقَالَ لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» . وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ.

أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَيَرُدُّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ شُرِعَ الدَّفْنُ فِي الصَّحْرَاءِ، وَهُوَ أَنْ يَبْقَى الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ نَظِيفًا لِعَطَشِ الْأَرْضِ الَّتِي يُدْفَنُ فِيهَا الْمَيِّتُ، فَأَيُّ فَضْلَةٍ خَرَجَتْ شَرِبَهَا التُّرَابُ، وَالْغَرْسُ عِنْدَ الْقَبْرِ يَسْتَدْعِي ضِدَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى السَّقْيِ بِالْمَاءِ، وَذَلِكَ يُزِيلُ هَذِهِ الْحِكْمَةَ لِأَجْلِ أَنَّ الْقَبْرَ يَبْقَى مَبْلُولًا مِنْ دَاخِلِهِ فَلَا يَشْرَبُ الْفَضَلَاتِ فَيَنْمَاعُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَيَصِيرُ إذَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ دَفْنِهِ فِي الْأَرْضِ التُّرْبَةِ أَوْ يُنْقَرُ لَهُ فِي الْحَجَرِ الصُّلْبِ وَقَدْ مَضَى بَيَانُ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» رَاجِعٌ إلَى بَرَكَةِ مَا وَقَعَ مِنْ لَمْسِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِتِلْكَ الْجَرِيدَةِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ الطُّرْطُوشِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ سِرَاجِ الْمُلُوكِ لَهُ لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ عَقِبَهُ: وَذَلِكَ لِبَرَكَةِ يَدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَمَا نُقِلَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَلَمْ يَصْحَبْهُ عَمَلُ بَاقِيهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - إذْ لَوْ فَهِمُوا ذَلِكَ لَبَادَرُوا بِأَجْمَعِهِمْ إلَيْهِ، وَلَكَانَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الدَّفْنُ فِي الْبَسَاتِينِ مُسْتَحَبًّا. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ شَرْحِ مَعَالِمِ سُنَنِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَأَمَّا «غَرْسُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شِقَّ الْعَسِيبِ عَلَى الْقَبْرِ» ، وَقَوْلُهُ: «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» ، فَإِنَّهُ مِنْ نَاحِيَةِ التَّبَرُّكِ بِأَثَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدُعَائِهِ بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمَا، وَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ

<<  <  ج: ص:  >  >>