للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ أَبُو مُحَمَّد الرامَهُرْمُزِي فِي "الْفَاصِل": حَدثنَا الْحُسَيْن بن نَبهَان ثَنَا سُهَيْل بن عُثْمَان ثَنَا حَفْص بن غياث عَن أَشْعَث عَن أنس بن سِيرِين، قَالَ: أتيت الْكُوفَة فَرَأَيْت فِيهَا أَرْبَعَة آلَاف يطْلبُونَ الحَدِيث، وَأَرْبَعمِائَة قد فقهوا، اهـ. وَفِي أَي مصر من أَمْصَار الْمُسلمين، غير الْكُوفَة، تَجِد مثل هَذَا الْعدَد الْعَظِيم للمحدثين، وَالْفُقَهَاء. وَفِي هَذَا مَا يدل عَلَى أَن الْفَقِيه مهمته شاقة جدا، فَلَا يكثر عدده كَثْرَة عدد النقلَة. وَقَالَ الرامَهُرْمُزِي أَيْضا: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد بن معدان حَدثنَا مَذْكُور بن سُلَيْمَان الوَاسِطِيّ، قَالَ: سَمِعت عَفَّان يَقُول - وَسمع قوما يَقُولُونَ: نسخنا كتب فلَان، ونسخنا كتب فلَان -، فَسَمعته يَقُول: نرَى هَذَا الضَّرْب من النَّاس لَا يفلحون، كُنَّا نأتي هَذَا فنسمع مِنْهُ مَا لَيْسَ عِنْد هَذَا، ونسمع من هَذَا مَا لَيْسَ عِنْد هَذَا، فقدمنا الْكُوفَة فَأَقَمْنَا أَرْبَعَة أشهر وَلَو أردنَا أَن نكتب مائَة ألف حَدِيثا لكتبناها، فَمَا كتبنَا إِلَّا قدر خمسين ألف حَدِيث، وَمَا رَضِينَا من أحد إِلَّا مالأمة (١) ، إِلَّا شَرِيكا، فَإِنَّهُ أَبَى علينا، وَمَا رَأينَا بِالْكُوفَةِ لحاناً مجوزاً، اهـ.

أنظر، مصرا يكْتب بهَا - مثل - عَفَّان - فِي أَرْبَعَة أشهر. خمسين ألف حَدِيث! مَعَ هَذَا التروي (٢) ، ومسند أَحْمد أقل من ذَلِك بِكَثِير، أيعد مثل هَذَا الْبَلَد قَلِيل الحَدِيث؟! عَلَى أَن أَحَادِيث الْحَرَمَيْنِ مُشْتَركَة بَين عُلَمَاء الْأَمْصَار فِي تِلْكَ الطَّبَقَات، لِكَثْرَة حجهم، وَكم بَينهم من حج أَرْبَعِينَ حجَّة وَعمرَة، وَأكْثر، وَأَبُو حنيفَة وَحده، حج خمْسا وَخمسين حجَّة، وَأَنت ترَى البُخَارِيّ يَقُول: وَلَا أحصي مَا دخلت الْكُوفَة فِي طلب الحَدِيث، حينما يذكر عدد مَا دخل بَاقِي الْأَمْصَار، وَلِهَذَا أيضاُ دلَالَته فِي هَذَا الصدد.

وَمِمَّا يدل عَلَيْهِ الْخَبَر السَّابِق، بَرَاءَة عُلَمَاء الْكُوفَة من اللّحن الَّذِي اكتظت بِهِ بِلَاد الْحجاز، وَالشَّام، ومصر فِي ذَلِك الْعَهْد، وَأَنت تَجِد فِي كَلَام ابْن فَارس مدافعته عَن مَالك فِي ذَلِك، وَقَول اللَّيْث فِي ربيعَة، تَجدهُ فِي"الْحِلْية" وَقَول أبي حنيفَة فِي نَافِع، تَجدهُ فِي - كتاب - ابْن أبي الْعَوام، والكلمة الَّتِي تروى عَن أبي حنيفَة، (٣) بِدُونِ سَنَد مُتَّصِل، عَلَى أَن وَجههَا فِي الْعَرَبيَّة ظَاهرا جدا، عَلَى فرض ثُبُوتهَا عَنهُ، وَقد توسع الْمبرد فِي - اللحَنة - أنباء اللاحنين من أهل الْأَمْصَار، سُوَى بِلَاد الْعرَاق، وَقد نقل مَسْعُود بن شيبَة جملَة من ذَلِك فِي "التَّعْلِيم"، عَلَى أَن مصر كَانَت تعاشر القبط، وَالشَّام يساكن الرّوم، وَكَانَ الْحجاز يطرقه كل طَارق من الْأَعَاجِم، وَلَا سِيمَا بعد عهد كبار التَّابِعين، مَعَ عدم وجود أَئِمَّة بهَا للغة، يحفظونها من الدخيل. واللحون، وَأما الْكُوفَة، وَالْبَصْرَة، ففيهما دونت الْعَرَبيَّة، فَأهل الْكُوفَة راعوا تدوين جَمِيع اللهجات الْعَرَبيَّة، فِي عهد نزُول الْوَحْي، ليستعينوا بذلك عَلَى فهم أسرار الْكتاب وَالسّنة، ووجوه الْقِرَاءَة، وَأهل الْبَصْرَة انتهجوا مَسْلَك التخير من اللهجات، مَا يحِق أَن يتَّخذ لُغَة الْمُسْتَقْبل، فأحد المسلكين لَا يُغني عَن الآخر.

فَعلم بذلك مَرْكَز الْكُوفَة فِي الْفِقْه. والْحَدِيث. واللغة، وَأما الْقُرْآن، فالأئمة الثَّلَاثَة، من السَّبْعَة، كوفيون، وهم: ١ - عَاصِم. ٢ - وَحَمْزَة. ٣ - وَالْكسَائِيّ، وزد خلفا، الْعَاشِر، من بَين الْعشْرَة، وَقد سبق بَيَان قِرَاءَة عَاصِم.


(١) يُرِيد: لم نرض فِي قبُول حَدِيث أحد، أَو رِوَايَته، إِلَّا مَا تَلقاهُ الْأمة، انْظُر إِلَى هَذَا الشَّرْط الصعب، ثمَّ إِلَى هَذَا الاستكثار، وَهَذَا مُهِمّ، فاعلمه. "البنوري".
قَالَ فِي لِسَان الْعَرَب: واللأم الإتفاق، وَقد تلاءم الْقَوْم والتأموا: اجْتَمعُوا وَاتَّفَقُوا، وتلاءم الشيئانإذا اجْتمعَا واتصلا، وَيُقَال: التأم الْفَرِيقَانِ وَالرجلَانِ إِذا تصالحا واجتمعا، اهـ. فَلْينْظر هَذَا الْمَعْنى فَهُوَ يُفِيد عدم قبُول الْأَخْبَار إِلَّا مَا ورد من عدَّة طرق مَقْبُولَة.
(٢) وَعَفَّان هَذَا، هُوَ: عَفَّان بن مُسلم الْأنْصَارِيّ الْبَصْرِيّ، شيخ البُخَارِيّ، وَأحمد، وَإِسْحَاق، وخلائق، وَهُوَ الَّذِي يَقُول فِيهِ ابْن الْمَدِينِيّ: كَانَ إِذا شكّ فِي حرف من الحَدِيث تَركه، كَذَا فِي "التَّقْرِيب"، وَيَقُول أَبُو حَاتِم: إِمَام ثِقَة، متقن متين، وَيَقُول ابْن عدي: أوثق من أَن يُقَال فِيهِ شَيْء، كَذَا فِي "خُلَاصَة التذهيب" "البنوري".
(٣) يُرِيد بهَا الْأُسْتَاذ كلمة "أَبَا قبيس" وَسمعت مِنْهُ أَن المُرَاد بِهِ خشيَة الجزار، يقطع عَلَيْهَا اللَّحْم، فِي حوار أهل الْكُوفَة عندئذ، لَا الْجَبَل الْمَعْرُوف بِمَكَّة، زَادهَا الله تكريماً.

<<  <  ج: ص:  >  >>