للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْوَصْفِ امْتَازَ مَالِكٌ عَنْ أَضْرَابِهِ -أَعْنِي: بِشِدَّةِ الِاتِّصَافِ بِهِ- وَإِلَّا؛ فَالْجَمِيعُ مِمَّنْ يُهْتَدَى بِهِ فِي الدِّينِ، كَذَلِكَ كَانُوا، وَلَكِنَّ مَالِكًا اشْتُهِرَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَلَمَّا تُرِكَ هَذَا الْوَصْفُ؛ رَفَعَتِ الْبِدَعُ رُءُوسَهَا لِأَنَّ تَرْكَ الِاقْتِدَاءِ دَلِيلٌ عَلَى أَمْرٍ حَدَثَ عِنْدَ التَّارِكِ، أَصْلُهُ اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَلِهَذَا الْمَعْنَى تَقْرِيرٌ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى١.

فَصْلٌ:

وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَخْذِ الْعِلْمِ عَنْ أَهْلِهِ؛ فَلِذَلِكَ طَرِيقَانِ:

أَحَدُهُمَا:

الْمُشَافَهَةُ، وَهِيَ أَنْفَعُ الطَّرِيقَيْنِ وَأَسْلَمُهُمَا؛ لِوَجْهَيْنِ٢:

الْأَوَّلُ:

خَاصِّيَّةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ، يَشْهَدُهَا كُلُّ مَنْ زَاوَلَ الْعِلْمَ وَالْعُلَمَاءُ؛ فَكَمْ مِنْ مَسْأَلَةٍ يَقْرَؤُهَا الْمُتَعَلِّمُ فِي كِتَابٍ، وَيَحْفَظُهَا وَيُرَدِّدُهَا عَلَى قَلْبِهِ فَلَا يَفْهَمُهَا، فَإِذَا أَلْقَاهَا إِلَيْهِ الْمُعَلِّمُ فَهِمَهَا بَغْتَةً، وَحَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِهَا بِالْحَضْرَةِ, وَهَذَا الْفَهْمُ يَحْصُلُ إِمَّا بِأَمْرٍ عَادِيٍّ مِنْ قَرَائِنِ أَحْوَالٍ، وَإِيضَاحِ مَوْضِعِ إِشْكَالٍ لَمْ يَخْطُرْ لِلْمُتَعَلِّمِ بِبَالٍ، وَقَدْ يَحْصُلُ بِأَمْرٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ، وَلَكِنْ بأمر يهبه الله للمتعلم عِنْدَ مُثُولِهِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُعَلِّمِ، ظَاهِرَ الْفَقْرِ بَادِيَ الْحَاجَةِ إِلَى مَا يُلْقَى إِلَيْهِ.

وَهَذَا لَيْسَ يُنكر؛ فَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ: "إِنَّ الصَّحَابَةَ أَنْكَرُوا أَنْفُسَهُمْ عِنْدَمَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"٣، وَحَدِيثُ حنظلة الأسيدي؛ حين شكا إلى


١ انظر: المسألة الثانية من الطرف الثاني من الاجتهاد.
٢ لم يذكر إلا وجها واحدا؛ فتأمل.
٣ وقع نحوه وما يفيده؛ ففي "صحيح البخاري" "كتاب الجنائز، باب الدخول على الميت إذ أدرج في أكفانه/ رقم ١٢٤٢" بسنده إلى عمر بن الخطاب؛ قال: "والله؛ ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها -أي: قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: ٤٤]- فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ مات.
وأخرجه بلفظ المصنف عن أبي سعيد الخدري بإسناد صحيح ابن عبد البر في "الجامع" "رقم ٢٣٨٧"، وابن مردويه؛ كما في "الدر المنثور" "٦/ ٨٩"، وتتمته: "وكيف لا ننكر أنفسنا والله تعالى يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: ٧] ".

<<  <  ج: ص:  >  >>