للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المسألة الثانية عشرة: القول في نسخ الإجماع والنسخ بِهِ

الْإِجْمَاعُ لَا يَنْسَخُ، وَلَا يُنْسَخُ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

أَمَّا كَوْنُهُ لَا يَنْسَخُ، فَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّسْخُ لَا يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَأَمَّا فِي حَيَاتِهِ فَالْإِجْمَاعُ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِهِ، بَلْ يَكُونُ قَوْلُهُمُ الْمُخَالِفُ لِقَوْلِهِ لَغْوًا بَاطِلًا، لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَقَوْلُهُمْ الْمُوَافِقُ "لِقَوْلِهِ"* لَا اعْتِبَارَ بِهِ، بَلِ الِاعْتِبَارُ بِقُولِهِ وَحْدَهُ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ.

فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بَعْدَ أَيَّامِ النُّبُوَّةِ، وَبَعْدَ أَيَّامِ النُّبُوَّةِ فقد انْقَطَعَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مِنْهُمَا.

وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ لِلْإِجْمَاعِ إِجْمَاعًا آخَرَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ الثَّانِي إِنْ كَانَ لَا عَنْ دَلِيلٍ فَهُوَ خَطَأٌ، وَإِنْ كَانَ عَنْ دَلِيلٍ، فَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ الْأَوَّلُ خَطَأً، وَالْإِجْمَاعُ لَا يَكُونُ خَطَأً، فَبِهَذَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ نَاسِخًا أَوْ مَنْسُوخًا.

وَلَا "يَصِحُّ"** أَيْضًا: أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ مَنْسُوخًا بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْعَمَلِ بِهِ أَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ، بِمَا قِيلَ: مِنْ أَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا اخْتَلَفَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ فَهُوَ إِجْمَاعٌ، عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ يَجُوزُ الْأَخْذُ بِكِلَيْهِمَا، ثُمَّ يَجُوزُ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ -كَمَا مَرَّ فِي الْإِجْمَاعِ١- فَإِذَا أَجْمَعُوا بِطَلَ الْجَوَازُ، الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ، وَهَذَا هُوَ النَّسْخُ.

وَأُجِيبُ: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ سَلِمَ فَلَا يَكُونُ نَسْخًا، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْأَوَّلَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْإِجْمَاعِ الثَّانِي.

وَقَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى: إِنَّ دَلَالَةَ الْإِجْمَاعِ مُسْتَقِرَّةٌ فِي كُلِّ حَالٍ قَبْلَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ وَبَعْدَهُ.

قَالَ: فَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ لَا يُنْسَخُ، وَلَا يُنْسَخُ بِهِ، أَيْ: لَا يَقَعُ ذَلِكَ لَا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلِ عِيسَى بْنِ أَبَانٍ: إِنَّ الْإِجْمَاعَ نَاسِخٌ لِمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ، مِنْ "وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ غسل الميت"٢. انتهى.


* في "أ": بعد.
** في "أ": يصلح.

<<  <  ج: ص:  >  >>