للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المسألة السادسة: حكم الالتزام بمذهب مُعَيَّنٍ

اخْتَلَفَ الْمُجَوِّزُونَ لِلتَّقْلِيدِ، هَلْ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ؟

فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: يَلْزَمُهُ؛ وَرَجَّحَهُ إِلْكِيَا.

وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَلْزَمُهُ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ بَرْهَانَ وَالنَّوَوِيُّ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى الْعَامَّةِ تَقْلِيدَ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، وَبَعْضِهِمْ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ.

وَذَكَرَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَإِنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: لَا تَحْمِلِ النَّاسَ عَلَى مَذْهَبِكَ فَيُحرجوا، دَعْهُمْ يَتَرَخَّصُوا بِمَذَاهِبِ النَّاسِ.

وَسُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنَ الطَّلَاقِ فَقَالَ: يَقَعُ يَقَعُ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلَ: فَإِنْ أَفْتَانِي أَحَدٌ أَنَّهُ لَا يَقَعُ يَجُوزُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ: وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يُقَلِّدُونَ مَنْ شَاءُوا قَبْلَ ظُهُورِ الْمَذَاهِبِ١.

وَقَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ: الدَّلِيلُ يَقْتَضِي الْتِزَامَ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ، لَا قَبْلَهُمُ. انْتَهَى.

وَهَذَا التَّفْصِيلُ مَعَ زَعْمِ قَائِلِهِ أَنَّهُ اقْتَضَاهُ الدَّلِيلُ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَسْمَعُهُ السَّامِعُونَ، وَأَغْرَبِ مَا يَعْتَبِرُ بِهِ الْمُنْصِفُونَ.

أَمَّا إِذَا الْتَزَمَ الْعَامِّيُّ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ خلاف آخر، وهو أنه هل يجوز له أَنْ يُخَالِفَ إِمَامَهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، وَيَأْخُذَ بِقَوْلِ غَيْرِهِ؟

فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ.

وَقِيلَ: يَجُوزُ.

وَقِيلَ: إِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ بِالْمَسْأَلَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِانْتِقَالُ، وَإِلَّا جَازَ.

وَقِيلَ: إِنْ كَانَ بَعْدَ حُدُوثِ الْحَادِثَةِ الَّتِي قَلَّدَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ الِانْتِقَالُ، وَإِلَّا جَازَ، وَاخْتَارَ هَذَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ.

وَقِيلَ: إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ مَذْهَبَ غَيْرِ إِمَامِهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَقْوَى مِنْ مَذْهَبِهِ جَازَ لَهُ، وَإِلَّا لم يجز، وبه قال القدوري الحنفي٢.


١ انظر البحر المحيط ٦/ ٣٠٩.
٢ هو أحمد بن محمد بن جعفر القدوري، أبو الحسين، البغدادي، والقدوري نسبة إلى قرية من قرى بغداد ويقال لها: قدور، وقيل: نسبة إلى بيع القدور، ولد سنة اثنتين وستين وثلاثمائة هـ وتوفي سنة ثمان وعشرين وأربعمائة هـ، من آثاره: كتاب المختصر المشهور ا. هـ الفوائد البهية ٣٠، والجواهر المضية ١/ ٢٤٧ سير أعلام النبلاء ١٧/ ٥٧٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>