للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بِهَا بِيَمِينِ الْمُدَّعِي مَعَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دِرْهَمٍ وَثَوْبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَلَكِنْ أَبُو مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابُهُ سَدُّوا عَلَى نُفُوسِهِمْ بَابَ اعْتِبَارِ الْمَعَانِي وَالْحُكْمِ الَّتِي عَلَّقَ بِهَا الشَّارِعُ الْحُكْمَ، فَفَاتَهُمْ بِذَلِكَ حَظٌّ عَظِيمٌ مِنْ الْعِلْمِ، كَمَا أَنَّ الَّذِينَ فَتَحُوا عَلَى نُفُوسِهِمْ بَابَ الْأَقْيِسَةِ وَالْعِلَلِ - الَّتِي لَمْ يَشْهَدْ لَهَا الشَّارِعُ بِالْقَبُولِ - دَخَلُوا فِي بَاطِلٍ كَثِيرٍ، وَفَاتَهُمْ حَقٌّ كَثِيرٌ. فَالطَّائِفَتَانِ فِي جَانِبِ إفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ.

وَأَمَّا إرْشَادُ السُّنَّةِ إلَى ذَلِكَ: فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْيَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي إذَا أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا، لِقُوَّةِ جَانِبِهِ بِالشَّاهِدِ، وَمَكَّنَهُ مِنْ الْيَمِينِ بِغَيْرِ بَذْلِ خَصْمِهِ وَرِضَاهُ، وَحَكَمَ لَهُ بِهَا مَعَ شَاهِدِهِ، فَلَأَنْ يَحْكُمُ بِهِ بِالْيَمِينِ الَّتِي يَبْذُلُهَا خَصْمُهُ مَعَ قُوَّةِ جَانِبِهِ بِنُكُولِ خَصْمِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَهَذَا مِمَّا لَا يَشُكُّ فِيهِ مَنْ لَهُ حَوْضٌ فِي حُكْمِ الشَّرِيعَةِ وَعِلَلِهَا وَمَقَاصِدِهَا. وَلِهَذَا شُرِعَتْ الْأَيْمَانُ فِي الْقَسَامَةِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي، لِقُوَّةِ جَانِبِهِ بِاللَّوْثِ. وَهَذِهِ هِيَ الْمَوَاضِعُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي اسْتَثْنَاهَا مُنْكِرُو الْقِيَاسِ. وَلَمَّا كَانَتْ أَفْهَامُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَوْقَ أَفْهَامِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَعِلْمِهِمْ بِمَقَاصِدِ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوَاعِدِ دِينِهِ وَشَرْعِهِ، أَتَمَّ مِنْ عِلْمِ كُلِّ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ: عَدَلُوا عَنْ ذَلِكَ إلَى غَيْرِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ: وَحَكَمُوا بِالرَّدِّ مَعَ النُّكُولِ فِي مَوْضِعٍ، وَبِالنُّكُولِ وَحْدَهُ فِي مَوْضِعٍ. وَهَذَا مِنْ كَمَالِ، فَهْمِهِمْ وَعِلْمِهِمْ بِالْجَامِعِ وَالْفَارِقِ وَالْحِكَمِ وَالْمُنَاسَبَاتِ، وَلَمْ يَرْتَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ عِبَارَاتِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَاصْطِلَاحَاتهمْ وَتَكَلُّفَاتِهِمْ، فَهُمْ كَانُوا أَعْمَقَ الْأُمَّةِ عِلْمًا، وَأَقَلَّهُمْ تَكَلُّفًا. وَالْمُتَأَخِّرُونَ عَكْسُهُمْ فِي الْأَمْرَيْنِ.

فَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ قَالَ لِابْنِ عُمَرَ: " أَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بِعْتُ الْعَبْدَ وَمَا بِهِ دَاءٌ عَلِمْتُهُ "، فَأَبَى. فَحَكَمَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَلَمْ يَرُدَّ الْيَمِينَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى الْمُدَّعِي، وَيَقُولُ لَهُ: احْلِفْ أَنْتَ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِالْعَيْبِ، لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْلَمَهُ الْمُدَّعِيَ، وَيُمْكِنُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعْرِفَتُهُ، فَإِذَا لَمْ يَحْلِفْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يُكَلَّفْ الْمُدَّعِي الْيَمِينَ. فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ قَدْ بَاعَهُ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ، وَهُوَ إنَّمَا يَبْرَأُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْعَيْبِ، فَقَالَ لَهُ: " احْلِفْ أَنَّكَ بِعْتَهُ وَمَا بِهِ عَيْبٌ تَعْلَمُهُ ". وَهَذَا مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ دُونَ الْمُدَّعِي، فَإِنَّهُ قَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ: أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِالْعَيْبِ، وَأَنَّهُ كَتَمَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ.

وَأَمَّا أَثَرُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - وَقَوْلُ الْمِقْدَادِ: " احْلِفْ أَنَّهَا سَبْعَةُ آلَافٍ "، فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ، فَلَمْ يَحْكُمْ لَهُ بِنُكُولِ عُثْمَانَ - فَوَجْهُهُ: أَنَّ الْمُقْرِضَ إنْ كَانَ عَالِمًا بِصِدْقِ نَفْسِهِ وَصِحَّةِ دَعْوَاهُ، حَلَفَ وَأَخَذَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ لَمْ تَحِلَّ لَهُ الدَّعْوَى بِمَا لَا يَعْلَمُ صِحَّتَهُ، فَإِذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَمْ يَقْضِ لَهُ بِمُجَرَّدِ نُكُولِ خَصْمِهِ. إذْ خَصْمُهُ قَدْ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ، فَإِذَا قَالَ لِلْمُدَّعِي: إنْ كُنْتَ عَالِمًا بِصِحَّةِ دَعْوَاكَ فَاحْلِفْ وَخُذْ، فَقَدْ أَنْصَفَهُ جَدَّ الْإِنْصَافِ.

<<  <   >  >>