للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَأَمَّا تَحْلِيفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: فَقَدْ تَقَدَّمَ، وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ الْيَمِينَ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ جَانِبِهِ، وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ إنْكَارَ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَإِنْكَارَ الْقَوْلِ بِرَدِّ الْيَمِينِ، وَأَنَّهُ يُبْدَأُ فِي الْقَسَامَةِ بِأَيْمَانِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.

[فَصَلِّ فِي تَحْلِيف الشَّاهِد]

٦٣ - (فَصْلٌ)

وَأَمَّا تَحْلِيفُ الشَّاهِدِ: فَقَدْ تَقَدَّمَ. وَمِمَّا يُلْتَحَقُ بِهِ: أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ شَهَادَةً فَأَنْكَرَهَا، فَهَلْ يَحْلِفُ، وَتَصِحُّ الدَّعْوَى بِذَلِكَ؟ فَقَالَ شَيْخُنَا: لَوْ قِيلَ إنَّهُ تَصِحُّ الدَّعْوَى بِالشَّهَادَةِ لَتَوَجَّهَ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلْحَقِّ، فَإِذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ شَاهِدٌ لَهُ بِحَقِّهِ، وَسَأَلَ يَمِينَهُ: كَانَ لَهُ ذَلِكَ، فَإِذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ مَا ادَّعَى بِشَهَادَتِهِ، فَإِنْ قِيلَ: إنَّ كِتْمَانَ الشَّهَادَةِ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ لَمَا تَلِفَ، وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ، كَمَا قُلْنَا: يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى مَنْ تَرَكَ الطَّعَامَ الْوَاجِبَ إذَا كَانَ مُوجِبًا لِلتَّلَفِ، أَوْجَبَ الضَّمَانَ كَفِعْلِ الْمُحَرَّمِ، إلَّا أَنَّهُ يُعَارِضُ هَذَا: أَنَّ هَذَا تُهْمَةٌ لِلشَّاهِدِ، وَهُوَ يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: لِي شَاهِدٌ فَاسِقٌ بِكِتْمَانِهِ إلَّا أَنَّ هَذَا لَا يَنْفِي الضَّمَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي ضَمِنَ مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الْحُدُودِ الَّتِي لِلَّهِ وَلِلْآدَمِيِّ: أَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ حَقًّا عَلَى الشَّاهِدِ، بِدَلَالَةِ أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِي عَلَى فُلَانٍ شَهَادَةٌ فَجَحَدَهَا فُلَانٌ، أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يُعْدَى عَلَيْهِ وَلَا يُحْضِرُهُ، وَلَوْ كَانَتْ حَقًّا عَلَيْهِ لَأَحْضَرَهُ، كَمَا يُحْضِرُهُ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَسَلَّمَ الْقَاضِي ذَلِكَ، وَقَالَ: لَيْسَ إذَا لَمْ يَجُزْ الِاسْتِقْرَاءُ وَالْإِعْدَاءُ، أَوْ لَمْ تُسْمَعْ الدَّعْوَى لَمْ تُسْمَعْ الشَّهَادَةُ بِهِ، وَكَذَلِكَ أَعَادَ ذِكْرَهَا فِي مَسْأَلَةِ شَاهِدِ الْفَرْعِ عَلَى شَاهِدِ الْأَصْلِ، وَأَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ حَقًّا عَلَى أَحَدٍ، بِدَلِيلِ عَدَمِ الْإِعْدَاءِ، وَالْإِحْضَارِ إذَا ادَّعَى أَنَّ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ شَهَادَةً. وَهَذَا الْكَلَامُ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ الْمُتَعَيِّنَةَ حَقٌّ عَلَى الشَّاهِدِ، يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ، وَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: ٢٨٣] .

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: ٢٨٢] وَهَلْ الْمُرَادُ بِهِ: إذَا مَا دُعُوا لِلتَّحَمُّلِ، أَوْ لِلْأَدَاءِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلسَّلَفِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْآيَةَ تَعُمُّهُمَا، فَهِيَ حَقٌّ لَهُ، يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ وَيَتَعَرَّضُ لِلْفِسْقِ وَالْوَعِيدِ، وَلَكِنْ لَيْسَتْ حَقًّا تَصِحُّ الدَّعْوَى بِهِ، وَالتَّحْلِيفُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَعُودُ عَلَى مَقْصُودِهَا بِالْإِبْطَالِ، فَإِنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِاتِّهَامِهِ وَالْقَدْحِ فِيهِ بِالْكِتْمَانِ. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ: أَنَّ الشَّاهِدَ إذَا كَتَمَ شَهَادَتَهُ بِالْحَقِّ ضَمِنَهُ، لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ تَخْلِيصَ حَقِّ صَاحِبِهِ فَلَمْ

<<  <   >  >>