للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لَوْ ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ لَكَانَ دَلِيلًا عَلَى نَصٍّ نَاسِخٍ.

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ " لَهُ: وَلِصَاحِبِ الْحِسْبَةِ الْحُكْمُ عَلَى مَنْ غَشَّ فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ فِي خُبْزٍ أَوْ لَبَنٍ أَوْ عَسَلٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ السِّلَعِ، بِمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي " الْمُدَوَّنَةِ ": " إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَطْرَحُ اللَّبَنَ الْمَغْشُوشَ فِي الْأَرْضِ "، أَدَبًا لِصَاحِبِهِ، وَكَرِهَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَرَأَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ، وَقَالَ: لَا يُحِلُّ ذَنْبٌ مِنْ الذُّنُوبِ مَالَ إنْسَانٍ، وَإِنْ قَتَلَ نَفْسًا.

وَذَكَرَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ - فِي الَّذِي غَشَّ اللَّبَنَ - مِثْلَ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ.

قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: فَقُلْت لِمُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ: فَمَا وَجْهُ الصَّوَابِ عِنْدَكُمَا فِيمَنْ غَشَّ أَوْ نَقَصَ فِي الْوَزْنِ؟ قَالَا: يُعَاقَبُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ وَالْإِخْرَاجِ مِنْ السُّوقِ، وَمَا غَشَّ مِنْ الْخُبْزِ وَاللَّبَنِ، أَوْ غَشَّ فِي الْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ: فَلَا يُهْرَاقُ وَلَا يُنْهَبُ.

قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَلَا يَرُدُّهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ، وَلْيَأْمُرْ ثِقَتُهُ بِبَيْعِهِ عَلَيْهِ مِمَّنْ يَأْمَنُ أَلَّا يَغُشَّ بِهِ، وَيَكْسِرُ الْخُبْزَ إذَا كَسَدَ، ثُمَّ يُسَلِّمُهُ لِصَاحِبِهِ، وَيُبَاعُ عَلَيْهِ الْعَسَلُ وَالسَّمْنُ وَاللَّبَنُ الَّذِي يَغُشُّهُ مِمَّنْ يَأْكُلُهُ، وَيُبَيِّنُ لَهُ غِشَّهُ، وَهَكَذَا الْعَمَلُ فِي كُلِّ مَا غُشَّ مِنْ التِّجَارَاتِ، وَهُوَ إيضَاحٌ مَا اسْتَوْضَحْته مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ.

وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْمُسْتَحْسَنَ عِنْدَهُ، أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، إذْ فِي ذَلِكَ عُقُوبَةُ الْغَاشِّ بِإِتْلَافِهِ عَلَيْهِ، وَنَفْعُ الْمَسَاكِينِ بِإِعْطَائِهِمْ إيَّاهُ. وَلَا يُهْرَاقُ. وَقِيلَ لِمَالِكٍ: فَالزَّعْفَرَانُ وَالْمِسْكُ، أَتَرَاهُ مِثْلَهُ؟ قَالَ: مَا أَشْبَهَهُ بِذَلِكَ، إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي غَشَّهُ، فَهُوَ كَاللَّبَنِ.

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: هَذَا فِي الشَّيْءِ الْخَفِيفِ ثَمَنُهُ، فَأَمَّا إذَا كَثُرَ ثَمَنُهُ: فَلَا أَرَى ذَلِكَ، وَعَلَى صَاحِبِهِ الْعُقُوبَةُ، لِأَنَّهُ تَذْهَبُ فِي ذَلِكَ أَمْوَالٌ عِظَامٌ، تَزِيدُ فِي الصَّدَقَةِ بِكَثِيرٍ.

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: وَسَوَاءٌ - عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - كَانَ ذَلِكَ يَسِيرًا أَوْ كَثِيرًا، لِأَنَّهُ يُسَوِّي فِي ذَلِكَ بَيْنَ الزَّعْفَرَانِ وَاللَّبَنِ وَالْمِسْكِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ.

وَخَالَفَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، فَلَمْ يَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِمَا كَانَ يَسِيرًا. ذَلِكَ: إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي غَشَّهُ، فَأَمَّا مَنْ وُجِدَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ مَغْشُوشٌ لَمْ يَغُشَّهُ هُوَ، وَإِنَّمَا اشْتَرَاهُ، أَوْ وُهِبَ لَهُ، أَوْ وَرِثَهُ: فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَالْوَاجِبُ: أَنْ يُبَاعَ مِمَّنْ يُؤْمَنُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ غَيْرِهِ مُدَلِّسًا بِهِ، وَكَذَلِكَ مَا وَجَبَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ مِنْ الْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ: يُبَاعُ عَلَى الَّذِي غَشَّهُ.

<<  <   >  >>