للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الْجِرَابَ، وَقَالَ: طُفْ بِهِ عَلَى كُلِّ مَنْ يَعْمَلُ الْجُرُبَ بِبَغْدَادَ.

فَإِنْ عَرَفَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَاسْأَلْهُ عَمَّنْ بَاعَهُ مِنْهُ، فَإِذَا دَلَّك عَلَيْهِ فَاسْأَلْ الْمُشْتَرِي عَنْ ذَلِكَ وَنَقِّرْ عَنْ خَبَرِهِ.

فَغَابَ الرَّجُلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ عَادَ، فَقَالَ: مَا زِلْت أَسْأَلُ عَنْ خَبَرِهِ حَتَّى انْتَهَى إلَى فُلَانٍ الْهَاشِمِيِّ، اشْتَرَاهُ مَعَ عَشَرَةِ جُرُبٍ، وَشَكَا الْبَائِعُ شَرَّهُ وَفَسَادَهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا قَالَ: إنَّهُ كَانَ يَعْشَقُ فُلَانَةَ الْمُغَنِّيَةَ وَأَنَّهُ غَيَّبَهَا، فَلَا يُعْرَفُ لَهَا خَبَرٌ، وَادَّعَى أَنَّهَا هَرَبَتْ، وَالْجِيرَانُ يَقُولُونَ: إنَّهُ قَتَلَهَا.

فَبَعَثَ الْمُعْتَضِدُ مَنْ كَبَسَ مَنْزِلَ الْهَاشِمِيِّ وَأَحْضَرَهُ، وَأَحْضَرَ الْيَدَ وَالرِّجْلَ، وَأَرَاهُ إيَّاهُمَا، فَلَمَّا رَآهُمَا امْتَقَعَ لَوْنُهُ، وَأَيْقَنَ بِالْهَلَاكِ وَاعْتَرَفَ.

فَأَمَرَ الْمُعْتَضِدُ بِدَفْعِ ثَمَنِ الْجَارِيَةِ إلَى مَوْلَاهَا، وَحَبَسَ الْهَاشِمِيَّ حَتَّى مَاتَ فِي الْحَبْسِ.

[فَصَلِّ فِي محاسن الْفِرَاسَة]

١٥ - (فَصْلٌ)

وَمِنْ مَحَاسِنِ الْفِرَاسَةِ: أَنَّ الرَّشِيدَ رَأَى فِي دَارِهِ حُزْمَةَ خَيْزُرَانٍ، فَقَالَ لِوَزِيرِهِ الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ: مَا هَذِهِ؟ قَالَ عُرُوقُ الرِّمَاحِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَقُلْ الْخَيْزُرَانُ لِمُوَافَقَةِ اسْمِ أُمِّهِ.

وَنَظِيرُ هَذَا: أَنَّ بَعْضَ الْخُلَفَاءِ سَأَلَ وَلَدَهُ - وَفِي يَدِهِ مِسْوَاكٌ - مَا جَمْعُ هَذَا؟ قَالَ: مَحَاسِنُك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا مِنْ الْفِرَاسَةِ فِي تَحْسِينِ اللَّفْظِ.

وَهُوَ بَابٌ عَظِيمٌ، اعْتَنَى بِهِ الْأَكَابِرُ وَالْعُلَمَاءُ. وَلَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ فِي السُّنَّةِ وَهُوَ مِنْ خَاصِّيَّةِ الْعَقْلِ وَالْفِطْنَةِ.

فَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ خَرَجَ يَعُسُّ الْمَدِينَةَ بِاللَّيْلِ، فَرَأَى نَارًا مُوقَدَةً فِي خِبَاءٍ، فَوَقَفَ وَقَالَ: " يَا أَهْلَ الضَّوْءِ ". وَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ: يَا أَهْلَ النَّارِ. وَسَأَلَ رَجُلًا عَنْ شَيْءٍ: " هَلْ كَانَ؟ " قَالَ: لَا. أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَك، فَقَالَ: " قَدْ عُلِّمْتُمْ فَلَمْ تَتَعَلَّمُوا، هَلَّا قُلْت: لَا، وَأَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَك؟ ".

وَسُئِلَ الْعَبَّاسُ: أَنْتَ أَكْبَرُ أَمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ: هُوَ أَكْبَرُ مِنِّي، وَأَنَا وُلِدْت قَبْلَهُ. وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَبَاثُ بْنُ أَشْيَمَ؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْبَرُ مِنِّي، وَأَنَا أَسَنُّ مِنْهُ.

وَكَانَ لِبَعْضِ الْقُضَاةِ جَلِيسٌ أَعْمَى، وَكَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَنْهَضَ يَقُولُ: يَا غُلَامُ، اذْهَبْ مَعَ أَبِي مُحَمَّدٍ، وَلَا يَقُولُ: خُذْ بِيَدِهِ، قَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَخَلَّ بِهَا مَرَّةً.

وَمِنْ أَلْطَفِ مَا يُحْكَى فِي ذَلِكَ: أَنَّ بَعْضَ الْخُلَفَاءِ سَأَلَ رَجُلًا عَنْ اسْمِهِ؟ فَقَالَ: سَعْدٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: أَيُّ السُّعُودِ أَنْتَ؟ قَالَ: سَعْدُ السُّعُودِ لَك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَسَعْدٌ الذَّابِحُ لِأَعْدَائِك، وَسَعْدٌ بَلَعَ عَلَى سِمَاطِك، وَسَعْدُ الْأَخْبِيَةِ لِسِرِّك، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ. وَيُشْبِهُ هَذَا: أَنَّ مَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ دَخَلَ عَلَى الْمَنْصُورِ، فَقَارَبَ فِي خَطْوِهِ. فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: كَبِرَتْ

<<  <   >  >>