للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قَالَ شَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَكَذَلِكَ لَمْ يَحْبِسْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ زَوْجًا فِي صَدَاقِ امْرَأَتِهِ أَصْلًا.

وَفِي رِسَالَةِ اللَّيْثِ إلَى مَالِكٍ - الَّتِي رَوَاهَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ الْفَسَوِيُّ الْحَافِظُ فِي تَارِيخِهِ " عَنْ أَيُّوبَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْمَخْزُومِيِّ، قَالَ: هَذِهِ رِسَالَةُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ إلَى مَالِكٍ فَذَكَرَهَا إلَى أَنْ قَالَ: " وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ يَقْضُونَ فِي صَدَقَاتِ النِّسَاءِ، أَنَّهَا مَتَى شَاءَتْ أَنْ تُكَلِّمَ فِي مُؤَخَّرِ صَدَاقِهَا تَكَلَّمَتْ، فَيَدْفَعَ إلَيْهَا.

وَقَدْ وَافَقَ أَهْلُ الْعِرَاقِ أَهْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ مِصْرَ وَلَمْ يَقْضِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا مَنْ بَعْدَهُ لِامْرَأَةٍ بِصَدَاقِهَا الْمُؤَخَّرِ، إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مَوْتٌ أَوْ طَلَاقٌ، فَتَقُومَ عَلَى حَقِّهَا.

قُلْت: مُرَادُهُ بِالْمُؤَخَّرِ: الَّذِي أُخِّرَ قَبْضُهُ عَنْ الْعَقْدِ، فَتُرِكَ مُسَمًّى، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ: الْمُؤَجَّلَ. فَإِنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُطَالِبُ بِهِ قَبْلَ أَجَلِهِ، بَلْ هُوَ كَسَائِرِ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ: مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ مِنْ تَقْدِيمِ بَعْضِ الْمَهْرِ إلَى الْمَرْأَةِ، وَإِرْجَاءِ الْبَاقِي، كَمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ، وَقَدْ دَخَلَتْ الزَّوْجَةُ وَالْأَوْلِيَاءُ عَلَى تَأْخِيرِهِ إلَى الْفُرْقَةِ، وَعَدَمِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ مَا دَامَا مُتَّفِقَيْنِ.

وَلِذَلِكَ لَا تُطَالِبُ بِهِ إلَّا عِنْدَ الشَّرِّ وَالْخُصُومَةِ، أَوْ تَزَوُّجِهِ بِغَيْرِهَا، وَاَللَّهُ يَعْلَمُ - وَالزَّوْجُ وَالشُّهُودُ وَالْمَرْأَةُ وَالْأَوْلِيَاءُ - أَنَّ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ لَمْ يَدْخُلَا إلَّا عَلَى ذَلِكَ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يُسَمِّي صَدَاقًا تَتَجَمَّلُ بِهِ الْمَرْأَةُ وَأَهْلُهَا، وَيَعِدُونَهُ - بَلْ يَحْلِفُونَ لَهُ - أَنَّهُمْ لَا يُطَالِبُونَ بِهِ.

فَهَذَا لَا تُسْمَعُ دَعْوَى الْمَرْأَةِ بِهِ قَبْلَ الطَّلَاقِ، أَوْ الْمَوْتِ، وَلَا يُطَالَبُ بِهِ الزَّوْجُ وَلَا يُحْبَسُ بِهِ أَصْلًا، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهَا إنَّمَا تُطَالِبُ بِهِ عِنْدَ الْفُرْقَةِ أَوْ الْمَوْتِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا تَقُومُ مَصْلَحَةُ النَّاسِ إلَّا بِهِ.

قَالَ شَيْخُنَا: وَمِنْ حِينِ سُلِّطَ النِّسَاءُ عَلَى الْمُطَالَبَةِ بِالصَّدَقَاتِ الْمُؤَخَّرَةِ، وَحَبْسِ الْأَزْوَاجِ عَلَيْهَا، حَدَثَ مِنْ الشُّرُورِ وَالْفَسَادِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ.

وَصَارَتْ الْمَرْأَةُ إذَا أَحَسَّتْ مِنْ زَوْجِهَا بِصِيَانَتِهَا فِي الْبَيْتِ، وَمَنْعِهَا مِنْ الْبُرُوزِ، وَالْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ وَالذَّهَابِ حَيْثُ شَاءَتْ: تَدَّعِي بِصَدَاقِهَا، وَتَحْبِسُ الزَّوْجَ عَلَيْهِ، وَتَنْطَلِقُ حَيْثُ شَاءَتْ، فَيَبِيتُ الزَّوْجُ وَيَظَلُّ يَتَلَوَّى فِي الْحَبْسِ، وَتَبِيتُ الْمَرْأَةُ فِيمَا تَبِيتُ فِيهِ فَإِنْ قِيلَ فَالشَّرْطُ إنَّمَا يَكْتُبُهُ حَالًّا فِي ذِمَّتِهِ تُطَالِبُهُ بِهِ مَتَى شَاءَتْ.

قِيلَ: لَا عِبْرَةَ بِهَذَا بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ، وَأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ عَرَفَ أَنَّ هَذَا دَيْنٌ حَالٌّ تُطَالِبُهُ بِهِ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ، وَتَحْبِسُهُ عَلَيْهِ: لَمْ يُقْدِمْ عَلَى ذَلِكَ أَبَدًا، وَإِنَّمَا دَخَلُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُسَمًّى، تَتَجَمَّلُ بِهِ الْمَرْأَةُ، وَالْمَهْرُ هُوَ مَا سَاقَ إلَيْهَا، فَإِنْ قُدِّرَ بَيْنَهُمَا طَلَاقٌ أَوْ مَوْتٌ، طَالَبَتْهُ بِذَلِكَ.

وَهَذَا هُوَ الَّذِي فِي نَظَرِ النَّاسِ وَعُرْفِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ، وَلَا تَسْتَقِيمُ أُمُورُهُمْ إلَّا بِهِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

<<  <   >  >>