للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَذَلِكَ كُلُّ مَوْضِعٍ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهِ بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ، سَوَاءٌ كَانَ السَّيْرُ الْحِسِّيُّ عَلَى الْأَقْدَامِ وَالدَّوَابِّ أَوْ السَّيْرُ الْمَعْنَوِيُّ بِالتَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ أَوْ كَانَ اللَّفْظُ يَعُمُّهُمَا وَهُوَ الصَّوَابُ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِبَارِ وَالْحَذَرِ أَنْ يَحِلَّ بِالْمُخَاطَبِينَ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ، وَلِهَذَا أَمَرَ سُبْحَانَهُ أُولِي الْأَبْصَارِ بِالِاعْتِبَارِ بِمَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ، وَلَوْلَا أَنَّ حُكْمَ النَّظِيرِ حُكْمُ نَظِيرِهِ حَتَّى تَعْبُرَ الْعُقُولُ مِنْهُ إلَيْهِ لَمَا حَصَلَ الِاعْتِبَارُ، وَقَدْ نَفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ حُكْمِهِ وَحِكْمَتُهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي الْحُكْمِ فَقَالَ تَعَالَى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: ٣٥] {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: ٣٦] فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ بَاطِلٌ فِي الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ، لَا تَلِيقُ نِسْبَتُهُ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: ٢١] وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: ٢٨] أَفَلَا تَرَاهُ كَيْفَ ذَكَّرَ الْعُقُولَ وَنَبَّهَ الْفِطَرَ بِمَا أَوْدَعَ فِيهَا مِنْ إعْطَاءِ النَّظِيرِ حُكْمَ نَظِيرِهِ، وَعَدَمِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الشَّيْءِ وَمُخَالِفِهِ فِي الْحُكْمِ؟ وَكُلُّ هَذَا مِنْ الْمِيزَانِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ مَعَ كِتَابِهِ وَجَعَلَهُ قَرِينَهُ وَوَزِيرَهُ فَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى: ١٧] وَقَالَ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: ٢٥] وَقَالَ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ} [الرحمن: ١] {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: ٢] فَهَذَا الْكِتَابُ، ثُمَّ قَالَ: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن: ٧] وَالْمِيزَانُ يُرَادُ بِهِ الْعَدْلُ وَالْآلَةُ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا الْعَدْلُ وَمَا يُضَادُّهُ؛ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ هُوَ الْمِيزَانُ؛ فَالْأَوْلَى تَسْمِيَتُهُ بِالِاسْمِ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ بِهِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْعَدْلِ، وَهُوَ اسْمُ مَدْحٍ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ فِي كُلِّ حَالٍ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، بِخِلَافِ اسْمِ الْقِيَاسِ فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ، وَمَمْدُوحٍ وَمَذْمُومٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِئْ فِي الْقُرْآنِ مَدْحُهُ وَلَا ذَمُّهُ، وَلَا الْأَمْرُ بِهِ وَلَا النَّهْيُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ مَوْرِدُ تَقْسِيمٍ إلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ.

وَالصَّحِيحُ هُوَ الْمِيزَانُ الَّذِي أَنْزَلَهُ مَعَ كِتَابِهِ.

وَالْفَاسِدُ مَا يُضَادُّهُ كَقِيَاسِ الَّذِينَ قَاسُوا عَلَى الرِّبَا بِجَامِعِ مَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ مِنْ التَّرَاضِي بِالْمُعَاوَضَةِ الْمَالِيَّةِ، وَقِيَاسِ الَّذِينَ قَاسُوا الْمَيْتَةَ عَلَى الْمُذَكَّى فِي جَوَازِ أَكْلِهَا بِجَامِعِ مَا يَشْتَرِكَانِ مِنْ إزْهَاقِ الرُّوحِ هَذَا بِسَبَبٍ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَهَذَا بِفِعْلِ اللَّهِ، وَلِهَذَا تَجِدُ فِي كَلَامِ السَّلَفِ ذَمَّ الْقِيَاسِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ، وَتَجِدُ فِي كَلَامِهِمْ اسْتِعْمَالَهُ وَالِاسْتِدْلَالَ بِهِ، وَهَذَا حَقٌّ وَهَذَا حَقٌّ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

<<  <  ج: ص:  >  >>