للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَجْهَهُ وَيُحَدِّقَ نَظَرَهُ إلَى مَنْبَعِ الْهُدَى وَمَعْدِنِ الصَّوَابِ وَمَطْلَعِ الرُّشْدِ، وَهُوَ النُّصُوصُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ، فَيَسْتَفْرِغُ وُسْعَهُ فِي تَعَرُّفِ حُكْمِ تِلْكَ النَّازِلَةِ مِنْهَا، فَإِنْ ظَفِرَ بِذَلِكَ أَخْبَرَ بِهِ، وَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ بَادَرَ إلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ نُورُ اللَّهِ يَقْذِفُهُ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ، وَالْهَوَى وَالْمَعْصِيَةُ رِيَاحٌ عَاصِفَةٌ تُطْفِئُ ذَلِكَ النُّورَ أَوْ تَكَادُ، وَلَا بُدَّ أَنْ تُضْعِفَهُ.

وَشَهِدْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ إذَا أَعْيَتْهُ الْمَسَائِلُ وَاسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ فَرَّ مِنْهَا إلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالِاسْتِغَاثَةِ بِاَللَّهِ وَاللَّجَأِ إلَيْهِ، وَاسْتِنْزَالِ الصَّوَابِ مِنْ عِنْدِهِ، وَالِاسْتِفْتَاحِ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ، فَقَلَّمَا يَلْبَثُ الْمَدَدُ الْإِلَهِيُّ أَنْ يَتَتَابَعَ عَلَيْهِ مَدًّا، وَتَزْدَلِفُ الْفُتُوحَاتُ الْإِلَهِيَّةُ إلَيْهِ بِأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ وُفِّقَ هَذَا الِافْتِقَارَ عِلْمًا وَحَالًا، وَسَارَ قَلْبُهُ فِي مَيَادِينِهِ بِحَقِيقَةٍ وَقَصْدٍ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظُّهُ مِنْ التَّوْفِيقِ، وَمَنْ حُرِمَهُ فَقَدْ مُنِعَ الطَّرِيقَ وَالرَّفِيقَ، فَمَتَى أُعِينَ مَعَ هَذَا الِافْتِقَارِ بِبَذْلِ الْجَهْدِ فِي دَرْكِ الْحَقِّ فَقَدْ سَلَكَ بِهِ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.

[فَصْلٌ لَا يُفْتِي وَلَا يَحْكُمُ إلَّا بِمَا يَكُونُ عَالِمًا بِالْحَقِّ فِيهِ]

[لَا يُفْتِي وَلَا يَحْكُمُ إلَّا بِمَا يَكُونُ عَالِمًا بِالْحَقِّ فِيهِ] الْفَائِدَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:

إذَا نَزَلَتْ بِالْحَاكِمِ أَوْ الْمُفْتِي النَّازِلَةُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْحَقِّ فِيهَا أَوْ غَالِبًا عَلَى ظَنِّهِ بِحَيْثُ قَدْ اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي طَلَبِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْحَقِّ فِيهَا وَلَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ، وَلَا يَقْضِيَ بِمَا لَا يَعْلَمُ، وَمَتَى أَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِعُقُوبَةِ اللَّهِ، وَدَخَلَ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: ٣٣] فَجَعَلَ الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ أَعْظَمَ الْمُحَرَّمَاتِ الْأَرْبَعِ الَّتِي لَا تُبَاحُ بِحَالٍ؛ وَلِهَذَا حَصَرَ التَّحْرِيمَ فِيهَا بِصِيغَةِ الْحَصْرِ.

وَدَخَلَ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: ١٦٨] {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: ١٦٩] وَدَخَلَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ فَإِنَّمَا إثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ» وَكَانَ أَحَدُ الْقُضَاةِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ ثُلُثَاهُمْ فِي النَّارِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَرَفَ الْحَقَّ فِي الْمَسْأَلَةِ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا غَالِبًا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَلَا يَقْضِيَ بِغَيْرِهِ بِالْإِجْمَاعِ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَحَدُ الْقُضَاةِ الثَّلَاثَةِ وَالْمُفْتِينَ الثَّلَاثَةِ وَالشُّهُودِ الثَّلَاثَةِ، وَإِذَا كَانَ مَنْ أَفْتَى أَوْ حَكَمَ أَوْ شَهِدَ بِغَيْرِ عِلْمٍ مُرْتَكِبًا لِأَعْظَمِ الْكَبَائِرِ، فَكَيْفَ مَنْ أَفْتَى

<<  <  ج: ص:  >  >>