للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمُفْتِي نَفْسَهُ بِاتِّبَاعِهِ وَتَقْلِيدِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ مَعْرِفَةَ مَا تَرَجَّحَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُفْتِي، وَمَا يَعْتَقِدُهُ فِيهَا؛ لِاعْتِقَادِهِ عِلْمَهُ وَدِينَهُ وَأَمَانَتَهُ، فَهُوَ يَرْضَى تَقْلِيدَهُ [هُوَ] ، وَلَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي قَوْلِ إمَامٍ بِعَيْنِهِ؛ فَهَذِهِ أَجْنَاسُ الْفُتْيَا الَّتِي تَرِدُ عَلَى الْمُفْتِينَ.

فَفَرْضُ الْمُفْتِي فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَنْ يُجِيبَ بِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إذَا عَرَفَهُ وَتَيَقَّنَهُ، لَا يَسَعُهُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَمَّا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي فَإِذَا عَرَفَ قَوْلَ الْإِمَامِ نَفْسِهِ وَسِعَهُ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْسِبَ إلَيْهِ الْقَوْلَ وَيُطْلِقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَوْلُهُ بِمُجَرَّدِ مَا يَرَاهُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الَّتِي حَفِظَهَا أَوْ طَالَعَهَا مِنْ كَلَامِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ اخْتَلَطَتْ أَقْوَالُ الْأَئِمَّةِ وَفَتَاوِيهِمْ بِأَقْوَالِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِمْ وَاخْتِيَارَاتهمْ؛ فَلَيْسَ كُلُّ مَا فِي كُتُبِهِمْ مَنْصُوصًا عَنْ الْأَئِمَّةِ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُ يُخَالِفُ نُصُوصَهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُ لَا نَصَّ لَهُمْ فِيهِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُ يَخْرُجُ عَلَى فَتَاوِيهِمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُ أَفْتَوْا بِهِ بِلَفْظِهِ أَوْ بِمَعْنَاهُ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ " هَذَا قَوْلُ فُلَانٍ وَمَذْهَبُهُ " إلَّا أَنْ يَعْلَمَ يَقِينًا أَنَّهُ قَوْلُهُ وَمَذْهَبُهُ، فَمَا أَعْظَمَ خَطَرَ الْمُفْتِي وَأَصْعَبَ مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى،.

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَإِنَّهُ يَسَعُهُ أَنْ يُخْبِرَ الْمُسْتَفْتِيَ بِمَا عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ الصَّوَابُ، بَعْدَ بَذْلِ جُهْدِهِ وَاسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِ، وَمَعَ هَذَا فَلَا يَلْزَمُ الْمُسْتَفْتِيَ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ يَسُوغُ لَهُ الْأَخْذُ بِهِ، فَلْيُنْزِلْ الْمُفْتِي نَفْسَهُ فِي مَنْزِلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَنَازِلِ الثَّلَاثِ، وَلْيَقُمْ بِوَاجِبِهَا؛ فَإِنَّ الدِّينَ دِينُ اللَّهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَلَا بُدَّ سَائِلُهُ عَنْ كُلِّ مَا أَفْتَى بِهِ، وَهُوَ مُوقَرَةٌ عَلَيْهِ، وَمُحَاسَبٌ وَلَا بُدَّ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

[فَتَوَى الْمُفْتِي بِمَا خَالَفَ مَذْهَبَهُ]

[يُفْتِي الْمُفْتِي بِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ الصَّوَابُ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ مَذْهَبِهِ] الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَ [ة]

لِيَحْذَرْ الْمُفْتِي الَّذِي يَخَافُ مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يُفْتِيَ السَّائِلَ بِمَذْهَبِهِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ مَذْهَبَ غَيْرِهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَرْجَحَ مِنْ مَذْهَبِهِ وَأَصَحَّ دَلِيلًا، فَتَحْمِلُهُ الرِّيَاسَةُ عَلَى أَنْ يَقْتَحِمَ الْفَتْوَى بِمَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الصَّوَابَ فِي خِلَافِهِ؛ فَيَكُونُ خَائِنًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِلسَّائِلِ وَغَاشًّا لَهُ، وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ، وَحَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى مَنْ لَقِيَهُ وَهُوَ غَاشٌّ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَالدِّينُ النَّصِيحَةُ، وَالْغِشُّ مُضَادٌّ لِلدِّينِ كَمُضَادَّةِ الْكَذِبِ لِلصِّدْقِ وَالْبَاطِلِ لِلْحَقِّ، وَكَثِيرًا مَا تَرِدُ الْمَسْأَلَةُ نَعْتَقِدُ فِيهَا خِلَافَ الْمَذْهَبِ

<<  <  ج: ص:  >  >>