للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَدْرِي وَأَنْتَ فَقِيهُ أَهْلِ الْعِرَاقِ؟ فَقَالَ: لَكِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَسْتَحِي حِينَ قَالُوا: {لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: ٣٢] .

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تَعَلَّمْ لَا أَدْرِي فَإِنَّكَ إنْ قُلْتَ لَا أَدْرِي عَلَّمُوكَ حَتَّى تَدْرِيَ، وَإِنْ قُلْتُ: أَدْرِي سَأَلُوكَ حَتَّى لَا تَدْرِيَ.

وَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ أَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ شَهْرًا، فَكَانَ كَثِيرًا مَا يُسْأَلُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي.

وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لَا يَكَادُ يُفْتِي فُتْيَا وَلَا يَقُولُ شَيْئًا إلَّا قَالَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْنِي وَسَلِّمْ مِنِّي.

وَسُئِلَ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَسَكَتَ، فَقِيلَ: أَلَا تُجِيبُ؟ فَقَالَ: حَتَّى أَدْرِيَ الْفَضْلُ فِي سُكُوتِي أَوْ فِي الْجَوَابِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: أَدْرَكْتُ مِائَةً وَعِشْرِينَ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْأَلُ أَحَدُهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فَيَرُدَّهَا هَذَا إلَى هَذَا وَهَذَا إلَى هَذَا حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الْأَوَّلِ، وَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ أَوْ يُسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ.

وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْأَزْدِيُّ: إنَّ أَحَدَهُمْ لَيُفْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ لَوْ وَرَدَتْ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَجَمَعَ لَهَا أَهْلَ بَدْرٍ.

وَسُئِلَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: إنِّي لَا أُحْسِنُهُ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: إنِّي جِئْتُكَ لَا أَعْرِفُ غَيْرَكَ، فَقَالَ لَهُ الْقَاسِمُ: لَا تَنْظُرُ إلَى طُولِ لِحْيَتِي وَكَثْرَةِ النَّاسِ حَوْلِي، وَاَللَّهِ مَا أُحْسِنُهُ، فَقَالَ شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ جَالِسٌ إلَى جَنْبِهِ: يَا ابْنَ أَخِي الْزَمْهَا، فَوَاَللَّهِ مَا رَأَيْنَاكَ فِي مَجْلِسٍ أَنْبَلَ مِنْكَ الْيَوْمَ، فَقَالَ الْقَاسِمُ: وَاَللَّهِ لَأَنْ يُقْطَعَ لِسَانِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَكَلَّم بِمَا لَا عِلْمَ لِي بِهِ.

وَكَتَبَ سَلْمَانُ إلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَكَانَ بَيْنَهُمَا مُؤَاخَاةٌ: بَلَغَنِي أَنَّكَ قَعَدْتَ طَبِيبًا فَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ مُتَطَبِّبًا أَوْ تَقْتُلَ مُسْلِمًا، فَكَانَ رُبَّمَا جَاءَهُ الْخَصْمَانِ فَيَحْكُمُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ يَقُولُ: رَدُّوهُمَا عَلَيَّ، مُتَطَبِّبٌ وَاَللَّهِ، أَعِيدَا عَلَيَّ قَضِيَّتَكُمَا.

[حُكْمُ الْعَامِّيِّ الَّذِي لَا يَجِدُ مَنْ يُفْتِيهِ]

[حُكْمُ الْعَامِّيِّ الَّذِي لَا يَجِدُ مَنْ يُفْتِيهِ] الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: (إذَا نَزَلَتْ بِالْعَامِّيِّ نَازِلَةٌ وَهُوَ فِي مَكَان لَا يَجِدُ مَنْ يَسْأَلُهُ) عَنْ حُكْمِهَا فَفِيهِ طَرِيقَانِ لِلنَّاسِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَهُ حُكْمَ مَا قَبْلَ الشَّرْعِ، عَلَى الْخِلَافِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْوَقْفِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْمُرْشِدِ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ عَدَمِ الْمُرْشِدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُمَّةِ.

وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةٍ تُعَارِضُ الْأَدِلَّةَ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ، هَلْ يَعْمَلُ بِالْأَخَفِّ أَوْ بِالْأَشَدِّ أَوْ يَتَخَيَّرُ؟ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ، وَيَتَحَرَّى الْحَقَّ بِجَهْدِهِ وَمَعْرِفَةِ مِثْلِهِ، وَقَدْ نَصَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْحَقِّ أَمَارَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلَمْ يُسَوِّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ وَبَيْنَ مَا يَسْخَطُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ هَذَا مِنْ هَذَا، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْفِطَرُ السَّلِيمَةُ؛ مَائِلَةً إلَى الْحَقِّ، مُؤْثِرَةً لَهُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ لَهَا عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَمَارَاتِ الْمُرَجِّحَةِ وَلَوْ بِمَنَامٍ أَوْ بِإِلْهَامٍ، فَإِنْ قُدِّرَ ارْتِفَاعُ ذَلِكَ كُلِّهِ وَعَدِمَتْ فِي حَقِّهِ جَمِيعُ الْأَمَارَاتِ فَهُنَا يَسْقُطُ التَّكْلِيفُ عَنْهُ فِي حُكْمِ هَذِهِ النَّازِلَةِ، وَيَصِيرُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا كَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَإِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>