للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَيْكُمْ؛ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ مَا فَعَلَهُ الْمَأْمُومُ بِالِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ، وَيَلْزَمُهُ التَّحَوُّلُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ. بَلْ نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا مَا لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، وَيُصَلِّي الثَّانِيَةَ بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي عَمْرِو بْنِ الصَّلَاحِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا: " إذَا كَانَ الْمُفْتِي إنَّمَا يُفْتِي عَلَى مَذْهَبِ إمَامٍ مُعَيَّنٍ فَإِذَا رَجَعَ لِكَوْنِهِ بَانَ لَهُ قَطْعًا أَنَّهُ خَالَفَ فِي فَتْوَاهُ نَصَّ مَذْهَبِ إمَامِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ نَقْضُهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّ نَصَّ مَذْهَبِ إمَامِهِ فِي حَقِّهِ كَنَصِّ الشَّارِعِ فِي حَقِّ الْمُفْتِي الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ " فَلَيْسَ كَمَا قَالَا، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَلَا تَقْتَضِيهَا أُصُولُ الشَّرِيعَةِ، وَلَوْ كَانَ نَصُّ إمَامِهِ بِمَنْزِلَةِ نَصِّ الشَّارِعِ لَحَرُمَ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مُخَالَفَتُهُ وَفَسَقَ بِخِلَافِهِ.

وَلَمْ يُوجِبْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ نَقْضَ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَلَا إبْطَالَ فَتْوَى الْمُفْتِي بِكَوْنِهِ خِلَافَ قَوْلِ زَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو، وَلَا يُعْلَمُ أَحَدٌ سَوَّغَ النَّقْضَ بِذَلِكَ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَالْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالُوا: يُنْقَضُ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ مَا خَالَفَ نَصَّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: يُنْقَضُ مِنْ حُكْمِهِ مَا خَالَفَ قَوْلَ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ، وَيُنْقَضُ مِنْ فَتْوَى الْمُفْتِي مَا يُنْقَضُ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ، فَكَيْف يَسُوغُ نَقْضُ أَحْكَامِ الْحُكَّامِ وَفَتَاوَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا خَالَفَتْ قَوْلَ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ؟ وَلَا سِيَّمَا إذَا وَافَقَتْ نَصًّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ فَتَاوَى الصَّحَابَةِ يَسُوغُ نَقْضُهَا لِمُخَالَفَةِ قَوْلِ فُلَانٍ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ قَوْلَ فَقِيهٍ مِنْ الْأُمَّةِ بِمَنْزِلَةِ نَصِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِحَيْثُ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَيَحْرُمُ خِلَافُهُ.

فَإِذَا بَانَ لِلْمُفْتِي أَنَّهُ خَالَفَ إمَامَهُ وَوَافَقَ قَوْلَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُفَارِقَ امْرَأَتَهُ وَيَخْرَبَ بَيْتَهُ وَيُشَتِّتَ شَمْلَهُ وَشَمْلَ أَوْلَادِهِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِ الْمُفْتِي ظَهَرَ لَهُ أَنَّ مَا أَفْتَى بِهِ خِلَافُ نَصِّ إمَامِهِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: " فَارِقْ أَهْلَكَ " بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ النَّصُّ مَعَ قَوْلِ الثَّلَاثَةِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَبُطْلَانُ هَذَا الْقَوْلِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ نَتَكَلَّفَ بَيَانَهُ.

فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُفْتِي، فَهَلْ يَلْزَمُهُ إعْلَامُ الْمُسْتَفْتِي؟ قِيلَ: اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ؛ فَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ إعْلَامُهُ، فَإِنَّهُ عَمِلَ أَوَّلًا بِمَا يَسُوغُ لَهُ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بُطْلَانَهُ لَمْ يَكُنْ آثِمًا فَهُوَ فِي سِعَةٍ مِنْ اسْتِمْرَارِهِ، وَقِيلَ: بَلْ يَلْزَمُهُ إعْلَامُهُ؛ لِأَنَّ مَا رَجَعَ عَنْهُ قَدْ اعْتَقَدَ بُطْلَانَهُ، وَبَانَ لَهُ أَنَّ مَا أَفْتَاهُ بِهِ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ إعْلَامُهُ، كَمَا جَرَى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حِين أَفْتَى رَجُلًا بِحِلِّ أُمِّ امْرَأَتِهِ الَّتِي فَارَقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، ثُمَّ سَافَرَ إلَى الْمَدِينَةِ وَتَبَيَّنَ لَهُ خِلَافُ هَذَا الْقَوْلِ، فَرَجَعَ إلَى الْكُوفَةِ، وَطَلَبَ هَذَا الرَّجُلَ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>