للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَلْزَمَهُ تَجْدِيدُ النَّظَرِ؛ لِاحْتِمَالِ تَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ وَظُهُورِ مَا كَانَ خَافِيًا عَنْهُ، وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ تَجْدِيدُ النَّظَرِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مَا يُغَيِّرُ اجْتِهَادَهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْبَقَاءُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَقْضُهُ، وَلَا يَكُونُ اخْتِلَافُهُ مَعَ نَفْسِهِ فَادِحًا فِي عِلْمِهِ، بَلْ هَذَا مِنْ كَمَالِ عِلْمِهِ وَوَرَعِهِ، وَلِأَجْلِ هَذَا خَرَجَ عَنْ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ فَأَكْثَرُ، وَسَمِعْتُ شَيْخَنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: حَضَرْتُ عَقْدَ مَجْلِسٍ عِنْدَ نَائِبِ السُّلْطَانِ فِي وَقْفٍ أَفْتَى فِيهِ قَاضِي الْبَلَدِ بِجَوَابَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَقَرَأَ جَوَابَهُ الْمُوَافِقَ لِلْحَقِّ، فَأَخْرَجَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ جَوَابَهُ الْأَوَّلَ، وَقَالَ: هَذَا جَوَابُكَ بِضِدِّ هَذَا فَكَيْفَ تَكْتُبُ جَوَابَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ فِي وَاقِعَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَوَجَمَ الْحَاكِمُ، فَقُلْتُ: هَذَا مِنْ عِلْمِهِ وَدِينِهِ، أَفْتَى أَوَّلًا بِشَيْءٍ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ الصَّوَابُ فَرَجَعَ إلَيْهِ، كَمَا يُفْتِي إمَامُهُ بِقَوْلٍ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ خِلَافُهُ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ، وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي عِلْمِهِ وَلَا دِينِهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَئِمَّةِ، فُسِّرَ بِذَلِكَ وَسُرِّيَ عَنْهُ.

[كُلُّ الْأَئِمَّةِ يَذْهَبُونَ إلَى الْحَدِيثِ وَمَتَى صَحَّ فَهُوَ مَذْهَبُهُمْ] الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: " إذَا وَجَدْتُمْ فِي كِتَابِي خِلَافَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُولُوا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعَوُا مَا قُلْتُهُ " وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقُلْتُ أَنَا قَوْلًا فَأَنَا رَاجِعٌ عَنْ قَوْلِي وَقَائِلٌ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ " وَقَوْلُهُ: " إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاضْرِبُوا بِقَوْلِي الْحَائِطَ " وَقَوْلُهُ: " إذَا رَوَيْتُ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ أَذْهَبْ إلَيْهِ فَاعْلَمُوا أَنَّ عَقْلِي قَدْ ذَهَبَ " وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى صَرِيحٌ فِي مَدْلُولِهِ، وَأَنَّ مَذْهَبَهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، لَا قَوْلَ لَهُ غَيْرُهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ مَا خَالَفَ الْحَدِيثَ وَيُقَالُ: " هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ " وَلَا يَحِلُّ الْإِفْتَاءُ بِمَا خَالَفَ الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَلَا الْحُكْمُ بِهِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ أَتْبَاعِهِ، حَتَّى كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لِلْقَارِئِ إذَا قَرَأَ عَلَيْهِ مَسْأَلَةً مِنْ كَلَامِهِ: قَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِخِلَافِهَا، اضْرِبْ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَيْسَتْ مَذْهَبَهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ قَطْعًا، وَلَوْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ إذَا نَصَّ عَلَيْهِ وَأَبْدَى فِيهِ وَأَعَادَ وَصَرَّحَ فِيهِ بِأَلْفَاظٍ كُلُّهَا صَرِيحَةٌ فِي مَدْلُولِهَا؟ فَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنَّ مَذْهَبَهُ وَقَوْلَهُ الَّذِي لَا قَوْلَ لَهُ سَوَاءٌ مَا وَافَقَ الْحَدِيثَ، دُونَ مَا خَالَفَهُ وَأَنَّ مَنْ نَسَبَ إلَيْهِ خِلَافَهُ فَقَدْ نَسَبَ إلَيْهِ خِلَافَ مَذْهَبِهِ، وَلَا سِيَّمَا إذَا ذَكَرَ هُوَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ إنَّمَا خَالَفَهُ لِضَعْفٍ فِي سَنَدِهِ أَوْ لِعَدَمِ بُلُوغِهِ لَهُ مِنْ وَجْهٍ يَثِقُ بِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ لِلْحَدِيثِ سَنَدٌ صَحِيحٌ لَا مَطْعَنَ فِيهِ وَصَحَّحَهُ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ لَمْ تَبْلُغْهُ، فَهَذَا لَا يَشُكُّ عَالِمٌ وَلَا يُمَارِي فِي أَنَّهُ مَذْهَبُهُ قَطْعًا، وَهَذَا كَمَسْأَلَةِ الْجَوَائِحِ؛ فَإِنَّهُ عَلَّلَ حَدِيثَ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِأَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا تَرَكَ ذِكْرَ الْجَوَائِحِ، وَقَدْ

<<  <  ج: ص:  >  >>