للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إيَّاهُ؛ فَالتَّأْوِيلُ بِالْأَلْغَازِ وَالْأَحَاجِي وَالْأُغْلُوطَاتِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْبَيَانِ وَالتَّبْيِينِ، وَهَلْ فَرَّقَ بَيْنَ دَفْعِ حَقَائِقِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ وَأَمَرَتْ بِهِ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ وَبَيْنَ رَدِّهِ وَعَدَمِ قَبُولِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا رَدُّ جُحُودٍ وَمُعَانِدَةٍ، وَذَاكَ رَدُّ خِدَاعٍ وَمُصَانَعَةٍ.

قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ الْمَالِكِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْكَشْفِ عَنْ مَنَاهِجِ الْأَدِلَّةِ " وَقَدْ ذَكَرَ التَّأْوِيلَ وَجِنَايَتَهُ عَلَى الشَّرِيعَةِ، إلَى أَنْ قَالَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: ٧] هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْجَدَلِ وَالْكَلَامِ، وَأَشَدُّ مَا عَرَضَ عَلَى الشَّرِيعَةِ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ أَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا كَثِيرًا مِمَّا ظَنُّوهُ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَالُوا: إنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي صُورَةِ الْمُتَشَابِهِ ابْتِلَاءً لِعِبَادِهِ وَاخْتِبَارًا لَهُمْ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ، بَلْ نَقُولُ: إنَّ كِتَابَ اللَّهِ الْعَزِيزِ إنَّمَا جَاءَ مُعْجِزًا مِنْ جِهَةِ الْوُضُوحِ وَالْبَيَانِ، فَمَا أَبْعَدُ مِنْ مَقْصِدِ الشَّارِعِ مَنْ قَالَ فِيمَا لَيْسَ بِمُتَشَابِهٍ: إنَّهُ مُتَشَابِهٌ، ثُمَّ أَوَّلَ ذَلِكَ الْمُتَشَابِهَ بِزَعْمِهِ، وَقَالَ لِجَمِيعِ النَّاسِ: إنَّ فَرْضَكُمْ هُوَ اعْتِقَادُ هَذَا التَّأْوِيلِ، مِثْلُ مَا قَالُوهُ فِي آيَةِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا قَالُوا: إنَّ ظَاهِرَهُ مُتَشَابِهٌ، ثُمَّ قَالَ: وَبِالْجُمْلَةِ فَأَكْثَرُ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي زَعَمَ الْقَائِلُونَ بِهَا أَنَّهَا الْمَقْصُودُ مِنْ الشَّرْعِ إذَا تَأَمَّلْتَ وَجَدْتَ لَيْسَ يَقُومُ عَلَيْهَا بُرْهَانٌ.

[مَثَلُ الْمُتَأَوِّلِينَ] إلَى أَنْ قَالَ: وَمِثَالُ مَنْ أَوَّلَ شَيْئًا مِنْ الشَّرْعِ وَزَعَمَ أَنَّ مَا أَوَّلَهُ هُوَ الَّذِي قَصَدَهُ الشَّرْعُ مِثَالُ مَنْ أَتَى إلَى دَوَاءٍ قَدْ رَكَّبَهُ طَبِيبٌ مَاهِرٌ لِيَحْفَظَ صِحَّةَ جَمِيعِ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ فَجَاءَ رَجُلٌ فَلَمْ يُلَائِمْهُ ذَلِكَ الدَّوَاءُ الْأَعْظَمُ لِرَدَاءَةِ مِزَاجٍ كَانَ بِهِ لَيْسَ يَعْرِضُ إلَّا لِلْأَقَلِّ مِنْ النَّاسِ، فَزَعَمَ أَنَّ بَعْضَ تِلْكَ الْأَدْوِيَةِ الَّتِي صَرَّحَ بِاسْمِهَا الطَّبِيبُ الْأَوَّلُ فِي ذَلِكَ الدَّوَاءِ الْعَامِّ الْمَنْفَعَةِ لَمْ يُرِدْ بِهِ ذَلِكَ الدَّوَاءَ الْعَامَّ الَّذِي جَرَتْ الْعَادَةُ فِي اللِّسَانِ أَنْ يُدَلُّ بِذَلِكَ الِاسْمِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ دَوَاءً آخَرَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُدَلُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ بِاسْتِعَارَةٍ بَعِيدَةٍ، فَأَزَالَ ذَلِكَ الدَّوَاءَ الْأَوَّلَ مِنْ ذَلِكَ الْمُرَكَّبِ الْأَعْظَمِ، وَجَعَلَ فِيهِ بَدَلَهُ الدَّوَاءَ الَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ قَصَدَهُ الطَّبِيبُ، وَقَالَ لِلنَّاسِ: هَذَا هُوَ الَّذِي قَصَدَهُ الطَّبِيبُ الْأَوَّلُ، فَاسْتَعْمَلَ النَّاسُ ذَلِكَ الدَّوَاءَ الْمُرَكَّبَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ عَلَيْهِ هَذَا الْمُتَأَوِّلُ، فَفَسَدَتْ أَمْزِجَةُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، فَجَاءَ آخَرُونَ فَشَعَرُوا بِفَسَادِ أَمْزِجَةِ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ الدَّوَاءِ الْمُرَكَّبِ، فَرَامُوا إصْلَاحَهُ بِأَنْ بَدَّلُوا بَعْضَ أَدْوِيَتِهِ بِدَوَاءٍ آخَرَ غَيْرِ الدَّوَاءِ الْأَوَّلِ؛ فَعَرَضَ مِنْ ذَلِكَ لِلنَّاسِ نَوْعٌ مِنْ الْمَرَضِ غَيْرِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ، فَجَاءَ ثَالِثٌ فَتَأَوَّلَ مِنْ أَدْوِيَةِ ذَلِكَ الْمُرَكَّبِ غَيْرَ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، فَعَرَضَ لِلنَّاسِ مِنْ ذَلِكَ نَوْعٌ ثَالِثٌ مِنْ الْمَرَضِ غَيْرُ النَّوْعَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، فَجَاءَ مُتَأَوِّلٌ رَابِعٌ فَتَأَوَّلَ دَوَاءً آخَرَ غَيْرَ الْأَدْوِيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ فَعَرَضَ مِنْهُ لِلنَّاسِ نَوْعٌ رَابِعٌ مِنْ الْمَرَضِ غَيْرُ الْأَمْرَاضِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ فَلَمَّا طَالَ الزَّمَانُ بِهَذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>