للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَتَأَمَّلْ مَا فِي هَذَا الْمَثَلِ مِنْ الْحُكْمِ وَالْمَعْنَى: فَمِنْهَا قَوْلُهُ: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف: ١٧٥] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي آتَاهُ آيَاتِهِ، فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ، وَاَللَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ، فَأَضَافَهَا إلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف: ١٧٥] أَيْ خَرَجَ مِنْهَا كَمَا تَنْسَلِخُ الْحَيَّةُ مِنْ جِلْدِهَا، وَفَارَقَهَا فِرَاقَ الْجِلْدِ يُسْلَخُ عَنْ اللَّحْمِ، وَلَمْ يَقُلْ فَسَلَخْنَاهُ مِنْهَا لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَسَبَّبَ إلَى انْسِلَاخِهِ مِنْهَا بِاتِّبَاعِ هَوَاهُ.

وَمِنْهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف: ١٧٥] أَيْ لَحِقَهُ وَأَدْرَكَهُ كَمَا قَالَ فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: ٦٠] وَكَانَ مَحْفُوظًا مَحْرُوسًا بِآيَاتِ اللَّهِ، مَحْمِيَّ الْجَانِبِ بِهَا مِنْ الشَّيْطَانِ، لَا يَنَالُ مِنْهُ شَيْئًا إلَّا عَلَى غِرَّةٍ وَخَطْفَةٍ، فَلَمَّا انْسَلَخَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ظَفِرَ بِهِ الشَّيْطَانُ ظَفْرَ الْأَسَدِ بِفَرِيسَتِهِ، فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ الْعَامِلِينَ بِخِلَافِ عَمَلِهِمْ، الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَيَعْمَلُونَ بِخِلَافِهِ، كَعُلَمَاءِ السُّوءِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} [الأعراف: ١٧٦] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الرِّفْعَةَ عِنْدَهُ لَيْسَتْ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ هَذَا كَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا هِيَ بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَإِيثَارِهِ وَقَصْدِ مَرْضَاةِ اللَّهِ.

فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ أَعْلَمْ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ وَلَمْ يَنْفَعْهُ بِهِ فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ عَبْدَهُ إذَا شَاءَ بِمَا آتَاهُ مِنْ الْعِلْمِ، وَإِنْ لَمْ يَرْفَعْهُ اللَّهُ فَهُوَ مَوْضُوعٌ لَا يَرْفَعُ أَحَدٌ بِهِ رَأْسًا، فَإِنَّ الْخَافِضَ الرَّافِعَ سُبْحَانَهُ خَفَضَهُ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَالْمَعْنَى لَوْ شِئْنَا فَضَّلْنَاهُ وَشَرَّفْنَاهُ وَرَفَعْنَا قَدْرَهُ وَمَنْزِلَتَهُ بِالْآيَاتِ الَّتِي آتَيْنَاهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِعَمَلِهِ بِهَا، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {لَرَفَعْنَاهُ} [الأعراف: ١٧٦] عَائِدٌ عَلَى الْكُفْرِ، وَالْمَعْنَى لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَا عَنْهُ الْكُفْرَ بِمَا مَعَهُ مِنْ آيَاتِنَا، قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: لَرَفَعْنَا عَنْهُ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ وَعَصَمْنَاهُ؛ وَهَذَا الْمَعْنَى حَقٌّ، وَالْأَوَّلُ هُوَ مُرَادُ الْآيَةِ، وَهَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْمُرَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السَّلَفَ كَثِيرًا مَا يُنَبِّهُونَ عَلَى لَازِمِ مَعْنَى الْآيَةِ فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْهَا: وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} [الأعراف: ١٧٦] قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: رَكَنَ إلَى الْأَرْضِ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَكَنَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: رَضِيَ بِالدُّنْيَا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَزِمَهَا وَأَبْطَأَ، وَالْمُخْلِدُ مِنْ الرِّجَالِ: هُوَ الَّذِي يُبْطِئُ مِشْيَتَهُ، وَمِنْ الدَّوَابِّ: الَّتِي تَبْقَى ثَنَايَاهُ إلَى أَنْ تَخْرُجَ رُبَاعِيَّتُهُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: خَلَدَ وَأَخْلَدَ، وَأَصْلُهُ مِنْ الْخُلُودِ وَهُوَ الدَّوَامُ وَالْبَقَاءُ، وَيُقَالُ: أَخْلَدَ فُلَانٌ بِالْمَكَانِ، إذَا أَقَامَ بِهِ، قَالَ مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ:

بِأَبْنَاءِ حَيٍّ مِنْ قَبَائِلِ مَالِكٍ ... وَعَمْرِو بْنِ يَرْبُوعٍ أَقَامُوا فَأَخْلَدُوا

قُلْت: وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة: ١٧] أَيْ قَدْ خُلِقُوا لِلْبَقَاءِ؛ لِذَلِكَ لَا يَتَغَيَّرُونَ وَلَا يَكْبَرُونَ، وَهُمْ عَلَى سِنٍّ وَاحِدٍ أَبَدًا؛ وَقِيلَ: هُمْ الْمُقَرَّطُونَ فِي آذَانِهِمْ وَالْمُسَوَّرُونَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ فَسَّرُوا اللَّفْظَةَ بِبَعْضِ

<<  <  ج: ص:  >  >>