للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

انْتِفَاءُ الْحُكْمِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِيًا، لَكِنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ، فَإِنَّ الْبَقَاءَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ حَادِثٍ، وَلَكِنْ يَفْتَقِرُ إلَى بَقَاءِ سَبَبِ ثُبُوتِهِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ الْمُخَالِفُ فَيَفْتَقِرُ إلَى مَا يُزِيلُ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ، وَإِلَى مَا يُحْدِثُ الثَّانِيَ، وَإِلَى مَا يَنْفِيهِ، فَكَانَ مَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ الْحَادِثُ أَكْثَرَ مِمَّا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ الْبَاقِي، فَيَكُونُ الْبَقَاءُ أَوْلَى مِنْ التَّغَيُّرِ، وَهَذَا مِثْلُ اسْتِصْحَابِ حَالِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ بَرِيئَةً قَبْلَ وُجُودِ مَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ شَاغِلٌ، وَمَعَ هَذَا فَالْأَصْلُ الْبَرَاءَةُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ مِنْ جِنْسِ اسْتِصْحَابِ الْبَرَاءَةِ.

وَمَنْ لَا يُجَوِّزُ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمُزِيلِ فَلَا يُجَوِّزُ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ لِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْأَدِلَّةَ النَّاقِلَةَ، كَمَا لَا يُجَوِّزُ الِاسْتِدْلَالَ بِالِاسْتِصْحَابِ لِمَنْ يَعْرِفُ الْأَدِلَّةَ النَّاقِلَةَ.

وَبِالْجُمْلَةِ فَالِاسْتِصْحَابُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهِ إلَّا إذَا اعْتَقَدَ انْتِفَاءَ النَّاقِلِ، فَإِنْ قَطَعَ الْمُسْتَدِلُّ بِانْتِفَاءِ النَّاقِلِ قَطَعَ بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ، كَمَا يُقْطَعُ بِبَقَاءِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَإِنْ ظَنَّ انْتِفَاءَ النَّاقِلِ أَوْ ظَنَّ انْتِفَاءَ دَلَالَتِهِ ظَنَّ انْتِفَاءَ النَّقْلِ، وَإِنْ كَانَ النَّاقِلُ مَعْنًى مُؤْثَرًا وَتَبَيَّنَ لَهُ عَدَمُ اقْتِضَائِهِ تَبَيَّنَّ لَهُ انْتِفَاءُ النَّقْلِ، مِثْلُ رُؤْيَةِ الْمَاءِ فِي الصَّلَاةِ لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَإِلَّا فَمَعَ تَجْوِيزِهِ لِكَوْنِهِ نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ لَا يَطْمَئِنُّ بِبَقَاءِ الْوُضُوءِ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ وَقَعَ النِّزَاعُ فِي انْتِقَاضِ وُضُوئِهِ وَوُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ طَهَارَتِهِ، كَالنِّزَاعِ فِي بُطْلَانِ الْوُضُوءِ بِخُرُوجِ النَّجَاسَاتِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، وَبِالْخَارِجِ النَّادِرِ مِنْهُمَا، وَبِمَسِّ النِّسَاءِ بِشَهْوَةٍ وَغَيْرِهَا، وَبِأَكْلِ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ، وَغُسْلِ الْمَيِّتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَا يُمْكِنُهُ اعْتِقَادُ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فِيهِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ لَهُ بُطْلَانُ مَا يُوجِبُ الِانْتِقَالَ، وَإِلَّا بَقِيَ شَاكًّا، وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ صِحَّةُ النَّاقِلِ - كَمَا لَوْ أَخْبَرَهُ فَاسِقٌ بِخَبَرٍ - فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّبَيُّنِ وَالتَّثَبُّتِ، لَمْ يُؤْمَرْ بِتَصْدِيقِهِ وَلَا بِتَكْذِيبِهِ فَإِنَّ كِلَيْهِمَا مُمْكِنٌ مِنْهُ، وَهُوَ مَعَ خَبَرِهِ لَا يَسْتَدِلُّ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ كَمَا كَانَ يَسْتَدِلُّ بِهِ بِدُونِ خَبَرِهِ، وَلِهَذَا جُعِلَ لَوْثًا وَشُبْهَةً، وَإِذَا شَهِدَ مَجْهُولُ الْحَالِ فَإِنَّهُ هُنَاكَ شَاكٌّ فِي حَالِ الشَّاهِدِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ الشَّكُّ فِي حَالِ الْمَشْهُودِ بِهِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ كَوْنُهُ عَدْلًا تَمَّ الدَّلِيلُ، وَعِنْدَ شَهَادَةِ الْمَجْهُولِينَ تَضْعُفُ الْبَرَاءَةُ أَعْظَمَ مِمَّا تَضْعُفُ عِنْدَ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ، فَإِنَّهُ فِي الشَّاهِدِ قَدْ يَكُونُ دَلِيلًا وَلَكِنْ لَا تُعْرَفُ دَلَالَتُهُ، وَأَمَّا هُنَاكَ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ، لَكِنْ يُمْكِنُ وُجُودُ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَإِنَّ صِدْقَهُ مُمْكِنٌ.

فَصْلٌ [الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ]

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِصْحَابَ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ حُجَّةٌ أَنَّ تَبَدُّلَ حَالِ الْمَحَلِّ الْمُجْمَعِ عَلَى حُكْمِهِ أَوَّلًا كَتَبَدُّلِ زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ وَشَخْصِهِ، وَتَبَدُّلُ هَذِهِ الْأُمُورِ وَتَغَيُّرُهَا لَا

<<  <  ج: ص:  >  >>