للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالثِّمَارُ إذَا سُقِيَتْ بِالْمَاءِ النَّجَسِ ثُمَّ سُقِيَتْ بِالطَّاهِرِ حَلَّتْ لِاسْتِحَالَةِ وَصْفِ الْخُبْثِ وَتَبَدُّلِهِ بِالطَّيِّبِ، وَعَكْسُ هَذَا أَنَّ الطَّيِّبَ إذَا اسْتَحَالَ خَبِيثًا صَارَ نَجَسًا كَالْمَاءِ وَالطَّعَامِ إذَا اسْتَحَالَ بَوْلًا وَعَذِرَةً، فَكَيْفَ أَثَّرَتْ الِاسْتِحَالَةُ فِي انْقِلَابِ الطَّيِّبِ خَبِيثًا وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِي انْقِلَابِ الْخَبِيثِ طَيِّبًا؟

وَاَللَّهُ - تَعَالَى - يُخْرِجُ الطَّيِّبَ مِنْ الْخَبِيثِ وَالْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْأَصْلِ، بَلْ بِوَصْفِ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ، وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ بَقَاءُ حُكْمِ الْخُبْثِ وَقَدْ زَالَ اسْمُهُ وَوَصْفُهُ، وَالْحُكْمُ تَابِعٌ لِلِاسْمِ وَالْوَصْفُ دَائِرٌ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا، فَالنُّصُوصُ الْمُتَنَاوِلَةُ لِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ لَا تَتَنَاوَلُ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ وَالرَّمَادَ وَالْمِلْحَ وَالتُّرَابَ وَالْخَلَّ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى وَلَا نَصًّا وَلَا قِيَاسًا.

وَالْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ اسْتِحَالَةِ الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا قَالُوا: الْخَمْرُ نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَطَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: وَهَكَذَا الدَّمُ وَالْبَوْلُ وَالْعَذِرَةُ إنَّمَا نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَتَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْقِيَاسَ مَعَ النُّصُوصِ وَأَنَّ مُخَالَفَةَ الْقِيَاسِ فِي الْأَقْوَالِ الَّتِي تُخَالِفُ النُّصُوصَ.

[فَصَلِّ الْوُضُوءُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ " إنَّ الْوُضُوءَ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهَا لَحْمٌ، وَاللَّحْمُ لَا يُتَوَضَّأُ مِنْهُ " فَجَوَابُهُ أَنَّ الشَّارِعَ فَرَّقَ بَيْنَ اللَّحْمَيْنِ، كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْمَكَانَيْنِ، وَكَمَا فَرَّقَ بَيْنَ الرَّاعِيَيْنِ رُعَاةِ الْإِبِلِ وَرُعَاةِ الْغَنَمِ فَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ دُونَ أَعْطَانِ الْإِبِلِ، وَأَمَرَ بِالتَّوَضُّؤِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ دُونَ الْغَنَمِ، كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ الرِّبَا وَالْبَيْعِ وَالْمُذَكَّى وَالْمَيْتَةِ، فَالْقِيَاسُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ مِنْ أَبْطَلْ الْقِيَاسِ وَأَفْسَدِهِ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ بِالْبَاطِلِ، هَذَا مَعَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ أَصْحَابِ الْإِبِلِ وَأَصْحَابِ الْغَنَمِ فَقَالَ " الْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي الْفَدَّادِينَ أَصْحَابِ الْإِبِلِ، وَالسَّكِينَةُ فِي أَصْحَابِ الْغَنَمِ ". وَقَدْ جَاءَ أَنَّ عَلَى ذُرْوَةِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانٌ، وَجَاءَ أَنَّهَا جِنٌّ خُلِقَتْ مِنْ جِنٍّ، فَفِيهَا قُوَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ، وَالْغَاذِي شَبِيهٌ بِالْمُغْتَذِي، وَلِهَذَا حَرُمَ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ؛ لِأَنَّهَا دَوَابُّ عَادِيَةٌ، فَالِاغْتِذَاءُ بِهَا يَجْعَلُ فِي طَبِيعَةِ الْمُغْتَذِي مِنْ الْعُدْوَانِ مَا يَضُرُّهُ فِي دِينِهِ، فَإِذَا اغْتَذَى مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَفِيهَا تِلْكَ الْقُوَّةُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَالشَّيْطَانُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ وَالنَّارُ تُطْفَأُ بِالْمَاءِ، هَكَذَا جَاءَ الْحَدِيثُ، وَنَظِيرُهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ «إنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ» فَإِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ كَانَ فِي وُضُوئِهِ مَا يُطْفِئُ تِلْكَ الْقُوَّةَ الشَّيْطَانِيَّةَ فَتَزُولُ تِلْكَ الْمَفْسَدَةُ، وَلِهَذَا أُمِرْنَا بِالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ إمَّا إيجَابًا مَنْسُوخًا، وَإِمَّا اسْتِحْبَابًا غَيْرَ مَنْسُوخٍ.

وَهَذَا الثَّانِي أَظْهَرُ لِوُجُوهٍ: مِنْهَا أَنَّ النَّسْخَ

<<  <  ج: ص:  >  >>