للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَفَرَّقَ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ مِنْ ذَلِكَ وَبَيْنَ مَا لَا يُمْكِنُ، فَلَمْ يُفْطِرْ بِالِاحْتِلَامِ وَلَا بِالْقَيْءِ الذَّارِعِ كَمَا لَا يُفْطِرُ بِغُبَارِ الطَّحِينِ وَمَا يَسْبِقُ مِنْ الْمَاءِ إلَى الْجَوْفِ عِنْدَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَجَعَلَ الْحَيْضَ مُنَافِيًا لِلصَّوْمِ دُونَ الْجَنَابَةِ، لِطُولِ زَمَانِهِ وَكَثْرَةِ خُرُوجِ الدَّمِ وَعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ التَّطْهِيرِ قَبْلَ وَقْتِهِ بِخِلَافِ الْجَنَابَةِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ دَمِ الْحِجَامَةِ وَدَمِ الْجُرْحِ فَجَعَلَ الْحِجَامَةَ مِنْ جِنْسِ الْقَيْءِ وَالِاسْتِمْنَاءِ وَالْحَيْضِ، وَخُرُوجَ الدَّمِ مِنْ الْجُرْحِ وَالرُّعَافَ مِنْ جِنْسِ الِاسْتِحَاضَةِ وَالِاحْتِلَامِ وَذَرْعِ الْقَيْءِ، فَتَنَاسَبَتْ الشَّرِيعَةُ وَتَشَابَهَتْ تَأْصِيلًا وَتَفْصِيلًا، وَظَهَرَ أَنَّهَا عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ وَالْمِيزَانِ الْعَادِلِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

[فَصَلِّ التَّيَمُّمُ جَارٍ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

وَمِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بَابُ التَّيَمُّمِ، قَالُوا: إنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التُّرَابَ مُلَوَّثٌ لَا يُزِيلُ دَرَنًا وَلَا وَسَخًا وَلَا يُطَهِّرُ الْبَدَنَ كَمَا لَا يُطَهِّرُ الثَّوْبَ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ شُرِعَ فِي عُضْوَيْنِ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ دُونَ بَقِيَّتِهَا، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنْ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ.

وَلَعَمْرُ اللَّهِ إنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ الْقِيَاسِ الْبَاطِلِ الْمُضَادِّ لِلدِّينِ، وَهُوَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - جَعَلَ مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، وَخَلَقْنَا مِنْ التُّرَابِ، فَلَنَا مَادَّتَانِ: الْمَاءُ، وَالتُّرَابُ، فَجَعَلَ مِنْهُمَا نَشْأَتَنَا وَأَقْوَاتَنَا، وَبِهِمَا تَطَهُّرَنَا وَتَعَبُّدَنَا، فَالتُّرَابُ أَصْلُ مَا خُلِقَ مِنْهُ النَّاسُ، وَالْمَاءُ حَيَاةُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُمَا الْأَصْلُ فِي الطَّبَائِعِ الَّتِي رَكَّبَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا هَذَا الْعَالَمَ وَجَعَلَ قَوَامَهُ بِهِمَا، وَكَانَ أَصْلُ مَا يَقَعُ بِهِ تَطْهِيرُ الْأَشْيَاءِ مِنْ الْأَدْنَاسِ وَالْأَقْذَارِ هُوَ الْمَاءَ فِي الْأَمْرِ الْمُعْتَادِ، فَلَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَّا فِي حَالِ الْعَدَمِ وَالْعُذْرِ بِمَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَكَانَ النَّقْلُ عَنْهُ إلَى شَقِيقِهِ وَأَخِيهِ التُّرَابِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَوَّثَ ظَاهِرًا فَإِنَّهُ يُطَهِّرُ بَاطِنًا ثُمَّ يُقَوِّي طَهَارَةَ الْبَاطِنِ فَيُزِيلُ دَنَسَ الظَّاهِرِ أَوْ يُخَفِّفُهُ، وَهَذَا أَمْرٌ يَشْهَدُهُ مَنْ لَهُ بَصَرٌ نَافِذٌ بِحَقَائِقِ الْأَعْمَالِ وَارْتِبَاطِ الظَّاهِرِ بِالْبَاطِنِ وَتَأَثُّرِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ وَانْفِعَالِهِ عَنْهُ.

فَصْلٌ الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِ التَّيَمُّمِ عَلَى عُضْوَيْنِ:

وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي عُضْوَيْنِ فَفِي غَايَةِ الْمُوَافَقَةِ لِلْقِيَاسِ وَالْحِكْمَةِ، فَإِنَّ وَضْعَ التُّرَابِ عَلَى الرُّءُوسِ مَكْرُوهٌ فِي الْعَادَاتِ، وَإِنَّمَا يُفْعَلُ عِنْدَ الْمَصَائِبِ وَالنَّوَائِبِ، وَالرِّجْلَانِ مَحَلُّ مُلَابَسَةِ التُّرَابِ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ، وَفِي تَتْرِيبِ الْوَجْهِ مِنْ الْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ لِلَّهِ وَالذُّلِّ لَهُ وَالِانْكِسَارِ

<<  <  ج: ص:  >  >>