للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِلَّهِ مَا هُوَ مِنْ أَحَبِّ الْعِبَادَاتِ إلَيْهِ وَأَنْفَعِهَا لِلْعَبْدِ، وَلِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لِلسَّاجِدِ أَنْ يُتَرِّبَ وَجْهَهُ لِلَّهِ، وَأَنْ لَا يَقْصِدَ وِقَايَةَ وَجْهِهِ مِنْ التُّرَابِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ لِمَنْ رَآهُ قَدْ سَجَدَ وَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التُّرَابِ وِقَايَةً فَقَالَ " تَرِّبْ وَجْهَكَ " وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي تَتْرِيبِ الرِّجْلَيْنِ.

وَأَيْضًا فَمُوَافَقَةُ ذَلِكَ لِلْقِيَاسِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ التَّيَمُّمَ جُعِلَ فِي الْعُضْوَيْنِ الْمَغْسُولَيْنِ، وَسَقَطَ عَنْ الْعُضْوَيْنِ الْمَمْسُوحَيْنِ، فَإِنَّ الرِّجْلَيْنِ تُمْسَحَانِ فِي الْخُفِّ، وَالرَّأْسَ فِي الْعِمَامَةِ، فَلَمَّا خَفَّفَ عَنْ الْمَغْسُولَيْنِ بِالْمَسْحِ خَفَّفَ عَنْ الْمَمْسُوحَيْنِ بِالْعَفْوِ، إذْ لَوْ مُسِحَا بِالتُّرَابِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَخْفِيفٌ عَنْهُمَا، بَلْ كَانَ فِيهِ انْتِقَالٌ مِنْ مَسْحِهِمَا بِالْمَاءِ إلَى مَسْحِهِمَا بِالتُّرَابِ، فَظَهَرَ أَنَّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ هُوَ أَعْدَلُ الْأُمُورِ وَأَكْمَلُهَا، وَهُوَ الْمِيزَانُ الصَّحِيحُ.

وَأَمَّا كَوْنُ تَيَمُّمِ الْجُنُبِ كَتَيَمُّمِ الْمُحْدِثِ فَلَمَّا سَقَطَ مَسْحُ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ بِالتُّرَابِ عَنْ الْمُحْدِثِ سَقَطَ مَسْحُ الْبَدَنِ كُلِّهِ بِالتُّرَابِ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، إذْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ وَالْعُسْرِ مَا يُنَاقِضُ رُخْصَةَ التَّيَمُّمِ، وَيَدْخُلُ أَكْرَمُ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى اللَّهِ فِي شِبْهِ الْبَهَائِمِ إذَا تَمَرَّغَ فِي التُّرَابِ، فَاَلَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ لَا مَزِيدَ فِي الْحُسْنِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ عَلَيْهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

[فَصَلِّ السَّلَمُ جَارٍ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]

وَأَمَّا السَّلَمُ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ تَوَهَّمَ دُخُولَهُ تَحْتَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» فَإِنَّهُ بَيْعٌ مَعْدُومٌ، وَالْقِيَاسُ يَمْنَعُ مِنْهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ بَيْعٌ مَضْمُونٌ فِي الذِّمَّةِ مَوْصُوفٌ مَقْدُورٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ غَالِبًا، وَهُوَ كَالْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْمَنَافِعِ فِي الْإِجَارَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ، وَقِيَاسُ السَّلَمِ عَلَى بَيْعِ الْعَيْنِ الْمَعْدُومَةِ الَّتِي لَا يَدْرِي أَيَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهَا أَمْ لَا، وَالْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي مِنْهَا عَلَى غَرَرٍ، مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَقَدْ فَطَرَ اللَّهُ الْعُقَلَاءَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ بَيْعِ الْإِنْسَانِ مَا لَا يَمْلِكُهُ وَلَا هُوَ مَقْدُورٌ لَهُ وَبَيْنَ السَّلَمِ إلَيْهِ فِي مَغْلٍ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّتِهِ مَقْدُورٍ فِي الْعَادَةِ عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَيْتَةِ وَالْمُذَكَّى وَالرِّبَا وَالْبَيْعِ.

وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» فَيُحْمَلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبِيعَ عَيْنًا مُعَيَّنَةً وَهِيَ لَيْسَتْ عِنْدَهُ، بَلْ مِلْكٌ لِلْغَيْرِ، فَيَبِيعُهَا ثُمَّ يَسْعَى فِي تَحْصِيلِهَا وَتَسْلِيمِهَا إلَى الْمُشْتَرِي.

وَالثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ بَيْعَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ، وَهَذَا أَشْبَهُ، فَلَيْسَ عِنْدَهُ حِسًّا وَلَا مَعْنًى، فَيَكُونُ قَدْ بَاعَهُ شَيْئًا لَا يَدْرِي هَلْ

<<  <  ج: ص:  >  >>