للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْأَعْيَانِ وَمَا عَلَّلْنَا بِهِ لَا يُنْتَقَضُ، وَأَيْضًا فَالْقِيَاسُ الْمَحْضُ وَقَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولُهَا وَمُنَاسَبَاتُهَا تَشْهَدُ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ حَالُ وُجُودٍ وَعَدَمٍ كَانَ فِي بَيْعِهِ حَالَ الْعَدَمِ مُخَاطَرَةٌ وَقِمَارٌ، وَبِذَلِكَ عَلَّلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَنْعَ حَيْثُ قَالَ: «أَرَأَيْتَ إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؟» وَأَمَّا مَا لَيْسَ لَهُ إلَّا حَالٌ وَاحِدٌ وَالْغَالِبُ فِيهِ السَّلَامَةُ فَلَيْسَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ مُخَاطَرَةً وَلَا قِمَارًا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُخَاطَرَةٌ يَسِيرَةٌ فَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ، وَمِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَتْ الْمَصْلَحَةُ وَالْمَفْسَدَةُ قُدِّمَ أَرْجَحُهُمَا، وَالْغَرَرُ إنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا، وَفِي الْمَنْعِ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ الْبَيْعِ ضَرَرٌ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ الْمُخَاطَرَةِ؛ فَلَا يُزِيلُ أَدْنَى الضَّرَرَيْنِ بِأَعْلَاهُمَا.

بَلْ قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ ضِدُّ ذَلِكَ، وَهُوَ دَفْعُ أَعْلَى الضَّرَرَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا؛ وَلِهَذَا لَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ الْمُزَابَنَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ رِبًا أَوْ مُخَاطَرَةٍ أَبَاحَهَا لَهُمْ فِي الْعَرَايَا لِلْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْمُزَابَنَةِ، وَلَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْمَيْتَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ خُبْثِ التَّغْذِيَةِ أَبَاحَهَا لَهُمْ لِلضَّرُورَةِ، وَلَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ النَّظَرَ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ أَبَاحَ مِنْهُ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ لِلْخَاطِبِ وَالْمُعَامِلِ وَالشَّاهِدِ وَالطَّبِيبِ، فَإِنْ قُلْتَ: فَهَذَا كُلُّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. [الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ أَصْلُ كُلِّ شَرٍّ]

قِيلَ: إنْ أَرَدْتَ أَنَّ الْفَرْعَ اخْتَصَّ بِوَصْفٍ يُوجِبُ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْلِ فَكُلُّ حُكْمٍ اسْتَنَدَ إلَى هَذَا الْفَرْقِ الصَّحِيحِ فَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ، وَإِنْ أَرَدْتَ أَنَّ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ اسْتَوَيَا فِي الْمُقْتَضِي وَالْمَانِعِ وَاخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا، لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْهُ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالشَّيْءُ إذَا شَابَهَ غَيْرَهُ فِي وَصْفٍ وَفَارَقَهُ فِي وَصْفٍ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ الْفَارِقِ مُخَالِفًا لِاسْتِوَائِهِمَا بِاعْتِبَارِ الْجَامِعِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ طَرْدًا وَعَكْسًا، وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ.

وَأَمَّا التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ مَعَ افْتِرَاقِهِمَا فِيمَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ أَوْ يَمْنَعُهُ فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ الَّذِي جَاءَ الشَّرْعُ دَائِمًا بِإِبْطَالِهِ، كَمَا أَبْطَلَ قِيَاسَ الرِّبَا عَلَى الْبَيْعِ، وَقِيَاسَ الْمَيْتَةِ عَلَى الْمُذَكَّى، وَقِيَاسَ الْمَسِيحِ عِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْأَصْنَامِ، وَبَيَّنَ الْفَارِقَ بِأَنَّهُ عَبْدٌ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِعُبُودِيَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ، فَكَيْفَ يُعَذِّبُهُ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ لَهُ مَعَ نَهْيِهِ عَنْ ذَلِكَ وَعَدَمِ رِضَاهُ بِهِ؟ بِخِلَافِ الْأَصْنَامِ؛ فَمَنْ قَالَ: " إنَّ الشَّرِيعَةَ تَأْتِي بِخِلَافِ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ " فَقَدْ أَصَابَ، وَهُوَ مِنْ كَمَالِهَا وَاشْتِمَالِهَا عَلَى الْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ، وَمَنْ سَوَّى بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ يَلْزَمُهُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ كُلِّ مَوْجُودَيْنِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْغَلَطِ، وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ، وَقَالُوا: أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيسُ، وَمَا عُبِدَتْ

<<  <  ج: ص:  >  >>