للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْأَصْلِ الَّذِي قَدْ تَبَيَّنَ فَسَادُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْقَبْضِ عَقِيبَ الْعَقْدِ، وَعَنْ هَذَا الْأَصْلِ قَالُوا: لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ إلَّا عَلَى مُدَّةٍ تَلِي الْعَقْدَ، وَعَلَى هَذَا بَنَوْا مَا إذَا بَاعَ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ أَبْطَلَ الْبَيْعَ لِكَوْنِ الْمَنْفَعَةِ لَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ فَلَا يَحْصُلُ التَّسْلِيمُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا مُسْتَثْنَى بِالشَّرْعِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَثْنَى بِالشَّرْطِ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ وَإِنْ كَانَتْ مَنْفَعَةُ الْبُضْعِ لِلزَّوْجِ وَلَمْ تَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ إذَا كَانَ الْعُرْفُ يَقْتَضِيهِ كَمَا إذَا بَاعَ مَخْزَنًا لَهُ فِيهِ مَتَاعٌ كَثِيرٌ لَا يُنْقَلُ فِي يَوْمٍ وَلَا أَيَّامٍ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ جَمْعُ دَوَابِّ الْبَلَدِ وَنَقْلُهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ قَالُوا: هَذَا مُسْتَثْنَى بِالْعُرْفِ، فَيُقَالُ: وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ الْمُسْتَثْنَى بِالشَّرْطِ أَقْوَى مِنْ الْمُسْتَثْنَى بِالْعُرْفِ، كَمَا أَنَّهُ أَوْسَعُ مِنْ الْمُسْتَثْنَى بِالشَّرْعِ؛ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ مَا لَا يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ، كَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِالنَّذْرِ أَوْسَعُ مِنْ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ.

[مَنْعُ أَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ التَّسْلِيمُ عَقِيبَهُ]

وَأَيْضًا قَوْلُكُمْ: " إنَّ مُوجَبَ الْعَقْدَ اسْتِحْقَاقُ التَّسْلِيمِ عَقِيبَهُ " أَتَعْنُونَ أَنَّ هَذَا مُوجَبُ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ أَوْ مُطْلَقِ الْعَقْدِ؟ فَإِنْ أَرَدْتُمْ الْأَوَّلَ فَصَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ الثَّانِيَ فَمَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَنْقَسِمُ إلَى الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، وَمُوجَبُ الْعَقْدِ الْمُقَيَّدِ مَا قُيِّدَ بِهِ، كَمَا أَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ الْمُقَيَّدِ بِتَأْجِيلِ الثَّمَنِ وَثُبُوتِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَالرَّهْنِ وَالضَّمِينِ هُوَ مَا قُيِّدَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُوجَبُهُ عِنْدَ إطْلَاقِهِ خِلَافَ ذَلِكَ؛ فَمُوجَبُ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ شَيْءٌ وَمُوجَبُ الْعَقْدِ الْمُقَيَّدِ شَيْءٌ، وَالْقَبْضُ فِي الْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ كَالْقَبْضِ فِي الدَّيْنِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَوَّزَ بَيْعَ الثَّمَرَةِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ مُسْتَحِقَّةً الْإِبْقَاءَ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ، وَلَمْ يَجْعَلْ مُوجَبَ الْعَقْدِ الْقَبْضَ فِي الْحَالِ، بَلْ الْقَبْضُ الْمُعْتَادُ عِنْدَ انْتِهَاءِ صَلَاحِهَا، وَدَخَلَ فِيمَا أَذِنَ فِيهِ بَيْعُ مَا هُوَ مَعْدُومٌ لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ، وَقَبْضُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ، وَهُوَ قَبْضٌ يُبِيحُ التَّصَرُّفَ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ قَبْضًا لَا يُوجِبُ انْتِقَالَ الضَّمَانِ، بَلْ إذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ قَبْلَ قَبْضِهِ الْمُعْتَادِ كَانَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ أَهْلِ بَلْدَتِهِ وَأَهْلِ سُنَّتِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ قَطْعًا؛ فَإِنَّهُ عَلَّقَ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ صَحَّ صِحَّةً لَا رَيْبَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّتِي تَوَقَّفَ الشَّافِعِيُّ فِيهَا؛ فَلَا يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ: مَذْهَبُهُ عَدَمُ وَضْعِ الْجَوَائِحِ، وَقَدْ قَالَ: إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ قُلْتُ بِهِ، وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ تَوَقَّفَ فِي صِحَّتِهَا، وَلَمْ تَبْلُغْهُ الطَّرِيقُ الْأُخْرَى الَّتِي لَا عِلَّةَ لَهَا وَلَا مَطْعَنَ فِيهَا، وَلَيْسَ مَعَ الْمُنَازَعِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ قَبْضٍ جَوَّزَ التَّصَرُّفَ يَنْقُلُ الضَّمَانَ، وَمَا لَمْ يُجَوِّزْ التَّصَرُّفَ لَا يَنْقُلُ الضَّمَانَ، فَقَبْضُ الْعَيْنِ

<<  <  ج: ص:  >  >>