للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُسَاقَاةً غَيْرَ مَقْصُودَةٍ وَإِجَارَةً غَيْرَ مَقْصُودَةٍ، فَجَعَلُوا مَا لَمْ يُقْصَدْ مَقْصُودًا، وَمَا قُصِدَ غَيْرَ مَقْصُودٍ، وَحَابُوا فِي الْمُسَاقَاةِ أَعْظَمَ مُحَابَاةٍ، وَذَلِكَ حَرَامٌ بَاطِلٌ فِي الْوَقْفِ وَبُسْتَانِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ مِنْ يَتِيمٍ أَوْ سَفِيهٍ أَوْ مَجْنُونٍ، وَمُحَابَاتُهُمْ إيَّاهُ فِي إجَارَةِ الْأَرْضِ لَا تُسَوِّغُ لَهُمْ مُحَابَاةَ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمُسَاقَاةِ، وَلَا يَسُوغُ اشْتِرَاطُ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ فِي الْآخَرِ، بَلْ كُلُّ عَقْدٍ مُسْتَقِلٌّ بِحُكْمِهِ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ فِعْلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَفِقْهِهِ؟ وَأَيْنَ الْقِيَاسُ مِنْ الْقِيَاسِ وَالْفِقْهُ مِنْ الْفِقْهِ؟ فَبَيْنَهُمَا فِي الصِّحَّةِ بُعْدُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقَيْنِ؟

[فَصَلِّ إجَارَةُ الظِّئْرِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ]

فَصْلٌ:

[إجَارَةُ الظِّئْرِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ]

فَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى الْمَقَامِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ كَوْنُ الْإِجَارَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ بُطْلَانَهُ.

وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي - وَهُوَ أَنَّ الْإِجَارَةَ الَّتِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهَا فِي كِتَابِهِ وَهِيَ إجَارَةُ الظِّئْرِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ - فَبِنَاءٌ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ إنَّمَا هُوَ الْمَنَافِعُ لَا الْأَعْيَانُ، وَهَذَا الْأَصْلُ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ، بَلْ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأُصُولُ أَنَّ الْأَعْيَانَ الَّتِي تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهَا حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَنَافِعِ كَالثَّمَرِ فِي الشَّجَرِ وَاللَّبَنِ فِي الْحَيَوَانِ وَالْمَاءِ فِي الْبِئْرِ؛ وَلِهَذَا سَوَّى بَيْنَ النَّوْعَيْنِ فِي الْوَقْفِ، فَإِنَّ الْوَقْفَ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ الْفَائِدَةِ.

فَكَمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فَائِدَةُ الْوَقْفِ مَنْفَعَةً كَالسُّكْنَى وَأَنْ تَكُونَ ثَمَرَةً وَأَنْ تَكُونَ لَبَنًا كَوَقْفِ الْمَاشِيَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِلَبَنِهَا، وَكَذَلِكَ فِي بَابِ التَّبَرُّعَاتِ كَالْعَارِيَّةِ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِالْمَتَاعِ ثُمَّ يَرُدُّهُ، وَالْعَرِيَّةُ لِمَنْ يَأْكُلُ ثَمَرَ الشَّجَرَةِ ثُمَّ يَرُدُّهَا، وَالْمَنِيحَةُ لِمَنْ يَشْرَبُ لَبَنَ الشَّاةِ ثُمَّ يَرُدُّهَا، وَالْقَرْضُ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ يَرُدُّ بَدَلَهَا الْقَائِمَ مَقَامَ عَيْنِهَا؛ فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ تَارَةً يُكْرِيهِ الْعَيْنَ لِلْمَنْفَعَةِ الَّتِي لَيْسَتْ أَعْيَانًا، وَتَارَةً لِلْعَيْنِ الَّتِي تَحْدُثُ شَيْئًا مِنْ بَعْدِ شَيْءٍ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ كَلَبَنِ الظِّئْرِ وَنَفْعِ الْبِئْرِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ لَمَّا كَانَتْ تَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ كَانَتْ كَالْمَنْفَعَةِ، وَالْمُسَوِّغُ لِلْإِجَارَةِ هُوَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَهُوَ حُدُوثُ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ شَيْئًا فَشَيْئًا، سَوَاءٌ كَانَ الْحَادِثُ عَيْنًا أَوْ مَنْفَعَةً، وَكَوْنُهُ جِسْمًا أَوْ مَعْنًى قَائِمًا بِالْجِسْمِ، لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمُقْتَضِي لِلْجَوَازِ، بَلْ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْأَعْيَانِ الْحَادِثَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا أَحَقُّ بِالْجَوَازِ؛ فَإِنَّ الْأَجْسَامَ أَكْمَلُ مِنْ صِفَاتِهَا، وَطَرْدُ هَذَا الْقِيَاسِ جَوَازُ إجَارَةِ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ لِرَضَاعِهِ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ كَمَا تَدْعُو إلَيْهِ فِي الظِّئْرِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ بِطَعَامِهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>