للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ أَصْلًا، بَلْ هُوَ إصْلَاحٌ بِلَا إفْسَادٍ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَرَى أَنْ يَشْتَرِيَ لِغَيْرِهِ أَوْ يَبِيعَ لَهُ أَوْ يُؤَجِّرَ لَهُ أَوْ يَسْتَأْجِرَهُ لَهُ ثُمَّ يُشَاوِرُهُ، فَإِنْ رَضِيَ وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَا يَضُرُّهُ، وَكَذَلِكَ فِي تَزْوِيجِ وَلِيَّتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَعَ الْحَاجَةِ فَالْقَوْلُ بِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَمَسْأَلَةُ الْمَفْقُودِ هِيَ مِمَّا يُوقَفُ فِيهَا تَفْرِيقُ الْإِمَامِ عَلَى إذْنِ الزَّوْجِ إذَا جَاءَ كَمَا يَقِفُ تَصَرُّفُ الْمُلْتَقِطِ عَلَى إذْنِ الْمَالِكِ إذَا جَاءَ، وَالْقَوْلُ بِرَدِّ الْمَهْرِ إلَى الزَّوْجِ بِخُرُوجِ بُضْعِ امْرَأَتِهِ عَنْ مِلْكِهِ، وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي الْمَهْرِ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ: هَلْ هُوَ مَا أَعْطَاهَا هُوَ أَوْ مَا أَعْطَاهَا الثَّانِي، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ: إحْدَاهُمَا يَرْجِعُ بِمَا مَهَرَهَا الثَّانِي؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي أَخَذَتْهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ بِمَا مَهَرَهَا هُوَ؛ فَإِنَّهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ، وَأَمَّا الْمَهْرُ الَّذِي أَصْدَقَهَا الثَّانِي فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَإِذَا ضَمِنَ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ الْمَهْرَ فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ:

إحْدَاهُمَا: يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي أَخَذَتْهُ.

وَالثَّانِي: قَدْ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ الَّذِي عَلَيْهِ، فَلَا يَضْمَنُ مَهْرَيْنِ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا لَمَّا اخْتَارَتْ فِرَاقَ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَنِكَاحِ الثَّانِي فَعَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّ الْمَهْرَ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ جِهَتِهَا، وَالثَّانِيَةُ لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، وَالْأَوَّلُ يَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ بِخُرُوجِ الْبُضْعِ عَنْ مِلْكِهِ، فَكَانَ عَلَى الثَّانِي، وَهَذَا الْمَأْثُورُ عَنْ عُمَرَ فِي مَسْأَلَةِ الْمَفْقُودِ.

وَهُوَ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَبْعَدِ الْأَقْوَالِ عَنْ الْقِيَاسِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: لَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ نُقِضَ حُكْمُهُ، وَهُوَ مَعَ هَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَأَحْرَاهَا فِي الْقِيَاسِ، وَكُلُّ قَوْلٍ قِيلَ سِوَاهُ فَهُوَ خَطَأٌ، فَمَنْ قَالَ: " إنَّهَا تُعَادُ إلَى الْأَوَّلِ بِكُلِّ حَالٍ، أَوْ تَكُونَ مَعَ الثَّانِي بِكُلِّ حَالٍ " فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ؛ إذْ كَيْفَ تُعَادُ إلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ لَا يَخْتَارُهَا وَلَا يُرِيدَهَا.

وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا تَفْرِيقًا سَائِغًا فِي الشَّرْعِ، وَأَجَازَ هُوَ ذَلِكَ التَّفْرِيقَ؟ فَإِنَّهُ وَإِنْ تَبَيَّنَ لِلْإِمَامِ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا اعْتَقَدَهُ فَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ لِلزَّوْجِ، فَإِذَا أَجَازَ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ زَالَ الْمَحْذُورُ، وَأَمَّا كَوْنُهَا زَوْجَةَ الثَّانِي بِكُلِّ حَالٍ مَعَ ظُهُورِ زَوْجِهَا وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا فَعَلَ الْإِمَامُ فَهُوَ خَطَأٌ أَيْضًا؛ فَإِنَّهُ مُسْلِمٌ لَمْ يُفَارِقْ امْرَأَتَهُ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِسَبَبٍ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَهُوَ يَطْلُبُ امْرَأَتَهُ، فَكَيْفَ يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا؟ وَهُوَ لَوْ طَلَبَ مَالَهُ أَوْ بَدَلَهُ رُدَّ إلَيْهِ فَكَيْفَ لَا تُرَدُّ إلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَأَهْلُهُ أَعَزُّ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟ وَإِنْ قِيلَ: " حَقُّ الثَّانِي تَعَلَّقَ بِهَا " قِيلَ: حَقُّهُ سَابِقٌ عَلَى حَقِّ الثَّانِي، وَقَدْ ظَهَرَ انْتِقَاضُ السَّبَبِ الَّذِي بِهِ اسْتَحَقَّ الثَّانِي أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لَهُ، وَمَا الْمُوجِبُ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، فَالصَّوَابُ مَا قَضَى بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

وَلِهَذَا تَعَجَّبَ أَحْمَدُ مِمَّنْ خَالَفَهُ، فَإِذَا ظَهَرَ صِحَّةُ مَا قَالَهُ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَصَوَابُهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُشْكِلَاتِ الَّتِي خَالَفَهُمْ فِيهَا مِثْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فَلَأَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ مَعَهُمْ فِيمَا وَافَقَهُمْ هَؤُلَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

<<  <  ج: ص:  >  >>