للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قِيلَ: لَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِأَنَّ «امْرَأَةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُطِعَتْ يَدُهَا» ، فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سَبَبِ الْقَطْعِ: هَلْ كَانَ لِسَرِقَتِهَا؟ وَعَرَّفَهَا الرَّاوِي بِصِفَتِهَا؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ سَبَبُ الْقَطْعِ كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ أَوْ كَانَ السَّبَبُ الْمَذْكُورُ هُوَ سَبَبَ الْقَطْعِ مِمَّا يَقُولُهُ أَحْمَدُ وَمَنْ وَافَقَهُ؟ وَنَحْنُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا نَنْتَصِرُ لِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ أَلْبَتَّةَ، فَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ قَوْلَ الْجُمْهُورِ انْدَفَعَ السُّؤَالُ، وَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ هُوَ الْقَوْلَ الْآخَرَ فَمُوَافَقَتُهُ لِلْقِيَاسِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ ظَاهِرٌ جِدًّا؛ فَإِنَّ الْعَارِيَّةَ مِنْ مَصَالِحِ بَنِي آدَمَ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهَا، وَلَا غِنًى لَهُمْ عَنْهَا، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ حَاجَةِ الْمُسْتَعِيرِ وَضَرُورَتُهُ إلَيْهَا إمَّا بِأُجْرَةٍ أَوْ مَجَّانًا، وَلَا يُمَكَّنُ الْمُعِيرَ كُلَّ وَقْتٍ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْعَارِيَّةِ، وَلَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ بِمَنْعِ الْعَارِيَّةِ شَرْعًا وَعَادَةً وَعُرْفًا، وَلَا فَرْقَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ مَنْ تَوَصَّلَ إلَى أَخْذِ مَتَاعِ غَيْرِهِ بِالسَّرِقَةِ وَبَيْنَ مَنْ تَوَصَّلَ إلَيْهِ بِالْعَارِيَّةِ وَجَحَدَهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ جَاحِدِ الْوَدِيعَةِ؛ فَإِنَّ صَاحِبَ الْمَتَاعِ فَرَّطَ حَيْثُ ائْتَمَنَهُ.

[فَصَلِّ الْفَرْقُ بَيْنَ الْيَدِ فِي الدِّيَةِ وَفِي السَّرِقَةِ]

وَأَمَّا قَطْعُ الْيَدِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ وَجَعْلُ دِيَتِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ فَمِنْ أَعْظَمِ الْمَصَالِحِ وَالْحِكْمَةِ؛ فَإِنَّهُ احْتَاطَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلْأَمْوَالِ وَالْأَطْرَافِ، فَقَطَعَهَا فِي رُبُعِ دِينَارٍ حِفْظًا لِلْأَمْوَالِ، وَجَعَلَ دِيَتَهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ حِفْظًا لَهَا وَصِيَانَةً، وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ الزَّنَادِقَةِ هَذَا السُّؤَالَ وَضَمَّنَهُ بَيْتَيْنِ، فَقَالَ:

يَدٌ بِخَمْسِمِئِي مِنْ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ ... مَا بَالُهَا قُطِعَتْ فِي رُبُعِ دِينَارِ

تَنَاقُضٌ مَا لَنَا إلَّا السُّكُوتُ لَهُ ... وَنَسْتَجِيرُ بِمَوْلَانَا مِنْ الْعَارِ

فَأَجَابَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهَا كَانَتْ ثَمِينَةً لَمَّا كَانَتْ أَمِينَةً، فَلَمَّا خَانَتْ هَانَتْ، وَضَمَّنَهُ النَّاظِمُ قَوْلَهُ:

يَدٌ بِخَمْسِ مِئِي مِنْ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ ... لَكِنَّهَا قُطِعَتْ فِي رُبْعِ دِينَارِ

حِمَايَةُ الدَّمِ أَغْلَاهَا وَأَرْخَصَهَا ... خِيَانَةُ الْمَالِ فَانْظُرْ حِكْمَةَ الْبَارِي

وَرُوِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَجَابَ بِقَوْلِهِ:

هُنَاكَ مَظْلُومَةٌ غَالَتْ بِقِيمَتِهَا ... وَهَا هُنَا ظَلَمَتْ هَانَتْ عَلَى الْبَارِي

<<  <  ج: ص:  >  >>