للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَقْصُودَ الْمَضْمَضَةِ كَمَقْصُودِ غَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ سَوَاءٌ، وَأَنَّهُ حَاجَةُ اللِّسَانِ وَالشَّفَتَيْنِ إلَى الْغَسْلِ كَحَاجَةِ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ؛ فَمَنْ أَنَكْسُ قَلْبًا وَأَفْسَدُ فِطْرَةً وَأَبْطَلُ قِيَاسًا مِمَّنْ يَقُولُ: إنَّ غَسْلَ بَاطِنِ الْمَقْعَدَةِ أَوْلَى مِنْ غَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَإِنَّ الشَّارِعَ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ؟ هَذَا إلَى مَا فِي غَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الْمُقَارِنِ لِنِيَّةِ التَّعَبُّدِ لِلَّهِ مِنْ انْشِرَاحِ الْقَلْبِ وَقُوَّتِهِ، وَاتِّسَاعِ الصَّدْرِ، وَفَرَحِ النَّفْسِ، وَنَشَاطِ الْأَعْضَاءِ؛ فَتَمَيَّزَتْ عَنْ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ بِمَا أَوْجَبَ غَسْلَهَا دُونَ غَيْرِهَا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

[فَصَلِّ تَوْبَةُ الْمُحَارِبِ]

فَصْلٌ

[تَوْبَةُ الْمُحَارِبِ]

وَأَمَّا اعْتِبَارُ تَوْبَةِ الْمُحَارِبِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ فَيُقَالُ: أَيْنَ فِي نُصُوصِ الشَّارِعِ هَذَا التَّفْرِيقُ؟ بَلْ نَصَّهُ عَلَى اعْتِبَارِ تَوْبَةِ الْمُحَارِبِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ إمَّا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ عَلَى اعْتِبَارِ تَوْبَةِ غَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ فَإِنَّهُ إذَا دَفَعَتْ تَوْبَتُهُ عَنْهُ حَدَّ حِرَابِهِ مَعَ شِدَّةِ ضَرَرِهَا وَتَعَدِّيهِ فَلَأَنْ تَدْفَعَ التَّوْبَةَ مَا دُونَ حَدِّ الْحِرَابِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: ٣٨] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» وَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْحُدُودَ عُقُوبَةً لِأَرْبَابِ الْجَرَائِمِ، وَرَفَعَ الْعُقُوبَةَ عَنْ التَّائِبِ شَرْعًا وَقَدَرًا؛ فَلَيْسَ فِي شَرْعِ اللَّهِ وَلَا قَدَرِهِ عُقُوبَةُ تَائِبٍ أَلْبَتَّةَ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: «كُنْت مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَصَبْت حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، قَالَ: وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ قَامَ إلَيْهِ الرَّجُلُ فَأَعَادَ قَوْلَهُ، قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْت مَعَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَك» فَهَذَا لَمَّا جَاءَ تَائِبًا بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْلُبَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَلَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ الَّذِي اعْتَرَفَ بِهِ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ الصَّوَابُ.

فَإِنْ قِيلَ: فَمَاعِزٌ جَاءَ تَائِبًا وَالْغَامِدِيَّةُ جَاءَتْ تَائِبَةً، وَأَقَامَ عَلَيْهِمَا الْحَدَّ.

قِيلَ: لَا رَيْبَ أَنَّهُمَا جَاءَا تَائِبَيْنِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحَدَّ أُقِيمَ عَلَيْهِمَا، وَبِهِمَا احْتَجَّ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَسَأَلْت شَيْخَنَا عَنْ ذَلِكَ؛ فَأَجَابَ بِمَا مَضْمُونُهُ بِأَنَّ الْحَدَّ مُطَهِّرٌ، وَأَنَّ التَّوْبَةَ مُطَهِّرَةٌ، وَهُمَا اخْتَارَا التَّطْهِيرَ بِالْحَدِّ عَلَى التَّطْهِيرِ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ، وَأَبَيَا إلَّا أَنْ يُطَهَّرَا بِالْحَدِّ، فَأَجَابَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى ذَلِكَ وَأَرْشَدَ إلَى اخْتِيَارِ التَّطْهِيرِ بِالتَّوْبَةِ عَلَى التَّطْهِيرِ بِالْحَدِّ، «فَقَالَ فِي حَقِّ مَاعِزٍ: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ يَتُوبُ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَلَوْ تَعَيَّنَ الْحَدُّ بَعْدَ التَّوْبَةِ لَمَا جَازَ

<<  <  ج: ص:  >  >>