للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَتَتَابَعُوا فِي ارْتِكَابِهَا غَلَّظَهَا الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّذِي أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَسُنَّتُهُ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَجَعَلَهَا ثَمَانِينَ بِالسَّوْطِ، وَنَفَى فِيهَا، وَحَلَقَ الرَّأْسَ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ فِقْهِ السُّنَّةِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِقَتْلِ الشَّارِبِ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ، وَلَمْ يَنْسَخْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ حَدًّا لَا بُدَّ مِنْهُ؛ فَهُوَ عُقُوبَةٌ تَرْجِعُ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِي الْمَصْلَحَةِ، فَزِيَادَةُ أَرْبَعِينَ وَالنَّفْيُ وَالْحَلْقُ أَسْهَلُ مِنْ الْقَتْلِ.

فَصْلٌ [تَغْرِيمُ الْمَالِ وَمُوجِبُهُ]

وَأَمَّا تَغْرِيمُ الْمَالِ - وَهُوَ الْعُقُوبَةُ الْمَالِيَّةُ - فَشَرَعَهَا فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا تَحْرِيقُ مَتَاعِ الْغَالِّ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَمِنْهَا حِرْمَانُ سَهْمِهِ، وَمِنْهَا إضْعَافُ الْغُرْمِ عَلَى سَارِقِ الثِّمَارِ الْمُعَلَّقَةِ، وَمِنْهَا إضْعَافُهُ عَلَى كَاتِمِ الضَّالَّةِ الْمُلْتَقَطَةِ، وَمِنْهَا أَخْذُ شَطْرِ مَالِ مَانِعِ الزَّكَاةِ، وَمِنْهَا عَزْمُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى تَحْرِيقِ دُورِ مَنْ لَا يُصَلِّي فِي الْجَمَاعَةِ لَوْلَا مَا مَنَعَهُ مِنْ إنْفَاذِهِ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِ الذُّرِّيَّةِ وَالنِّسَاءِ فِيهَا فَتَتَعَدَّى الْعُقُوبَةُ إلَى غَيْرِ الْجَانِي، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ عُقُوبَةُ الْحَامِلِ، وَمِنْهَا عُقُوبَةُ مَنْ أَسَاءَ عَلَى الْأَمِيرِ فِي الْغَزْوِ بِحِرْمَانِ سَلَبِ الْقَتِيلِ لِمَنْ قَتَلَهُ، حَيْثُ شَفَعَ فِيهِ هَذَا الْمُسِيءُ، وَأَمَرَ الْأَمِيرُ بِإِعْطَائِهِ، فَحُرِمَ الْمَشْفُوعُ لَهُ عُقُوبَةً لِلشَّافِعِ الْآمِرِ.

[التَّغْرِيمُ نَوْعَانِ مَضْبُوطٌ، وَغَيْرُ مَضْبُوطٍ]

وَهَذَا الْجِنْسُ مِنْ الْعُقُوبَاتِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ مَضْبُوطٌ، وَنَوْعٌ غَيْرُ مَضْبُوطٍ؛ فَالْمَضْبُوطُ مَا قَابَلَ الْمُتْلَفَ إمَّا لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَإِتْلَافِ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ أَوْ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ كَإِتْلَافِ مَالِهِ، وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى أَنَّ تَضْمِينَ الصَّيْدِ مُتَضَمِّنٌ لِلْعُقُوبَةِ بِقَوْلِهِ: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: ٩٥] وَمِنْهُ مُقَابَلَةُ الْجَانِي بِنَقِيضِ قَصْدِهِ مِنْ الْحِرْمَانِ، كَعُقُوبَةِ الْقَاتِلِ لِمُوَرِّثِهِ بِحِرْمَانِ مِيرَاثِهِ، وَعُقُوبَةِ الْمُدَبَّرِ إذَا قَتَلَ سَيِّدَهُ بِبُطْلَانِ تَدْبِيرِهِ، وَعُقُوبَةِ الْمُوصَى لَهُ بِبُطْلَانِ وَصِيَّتِهِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ عُقُوبَةُ الزَّوْجَةِ النَّاشِزَةِ بِسُقُوطِ نَفَقَتِهَا وَكِسْوَتِهَا.

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي غَيْرُ الْمُقَدَّرِ فَهَذَا الَّذِي يَدْخُلُهُ اجْتِهَادُ الْأَئِمَّةِ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَأْتِ فِيهِ الشَّرِيعَةُ بِأَمْرٍ عَامٍّ، وَقَدْرٍ لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ كَالْحُدُودِ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ: هَلْ حُكْمُهُ مَنْسُوخٌ أَوْ ثَابِتٌ؟ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ، وَيَرْجِعُ فِيهِ إلَى اجْتِهَادِ الْأَئِمَّةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ؛ إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى النَّسْخِ، وَقَدْ فَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>