للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حِكْمَةُ تَخْيِيرِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ]

قِيلَ: لَا مَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ لِلْجَانِي وَلَا لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَلَا لِسَائِرِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا هُوَ زِيَادَةُ فَسَادٍ، لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ بِمُجَرَّدِ التَّشَفِّي، وَيَكْفِي تَغْرِيبُهُ وَتَعْزِيرُهُ فِي التَّشَفِّي، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى النُّفُوسِ وَالْأَعْضَاءِ تُدْخِلُ مِنْ الْغَيْظِ وَالْحَنَقِ وَالْعَدَاوَةِ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَأَوْلِيَائِهِ مَا لَا تُدْخِلُهُ جِنَايَةُ الْمَالِ وَيُدْخِلُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْغَضَاضَةِ وَالْعَارِ وَاحْتِمَالِ الضَّيْمِ وَالْحَمِيَّةِ وَالتَّحَرُّقِ لِأَخْذِ الثَّأْرِ مَا لَا يَجْبُرُهُ الْمَالُ أَبَدًا، حَتَّى إنَّ أَوْلَادَهُمْ وَأَعْقَابَهُمْ لَيُعَيَّرُونَ بِذَلِكَ، وَلِأَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ مِنْ الْقَصْدِ فِي الْقِصَاصِ وَإِذَاقَةِ الْجَانِي وَأَوْلِيَائِهِ مَا أَذَاقَهُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَأَوْلِيَائِهِ مَا لَيْسَ لِمَنْ حُرِقَ ثَوْبُهُ أَوْ عُقِرَتْ فَرَسُهُ، وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مُوتُورٌ هُوَ وَأَوْلِيَاؤُهُ، فَإِنْ لَمْ يُوتَرْ الْجَانِي وَأَوْلِيَاؤُهُ وَيَجْرَعُوا مِنْ الْأَلَمِ وَالْغَيْظِ مَا يَجْرَعُهُ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا.

وَقَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا تَعِيبُ عَلَى مَنْ يَأْخُذُ الدِّيَةَ وَيَرْضَى بِهَا مِنْ دَرْكِ ثَأْرِهِ وَشِفَاءِ غَيْظِهِ، كَقَوْلِ قَائِلِهِمْ يَهْجُو مَنْ أَخَذَ الدِّيَةَ مِنْ الْإِبِلِ:

وَإِنَّ الَّذِي أَصْبَحْتُمْ تَحْلُبُونَهُ ... دَمٌ غَيْرَ أَنَّ اللَّوْنَ لَيْسَ بِأَشْقَرَا

وَقَالَ جَرِيرٌ يُعَيِّرُ مَنْ أَخَذَ الدِّيَةَ فَاشْتَرَى بِهَا نَخْلًا:

أَلَا أَبْلِغْ بَنِي حُجْرٌ بْنِ وَهْبٍ ... بِأَنَّ التَّمْرَ حُلْوٌ فِي الشِّتَاءِ

وَقَالَ آخَرُ:

إذَا صُبَّ مَا فِي الْوَطْبِ فَاعْلَمْ بِأَنَّهُ ... دَمُ الشَّيْخِ فَاشْرَبْ مِنْ دَمِ الشَّيْخِ أَوْ دَعْ

وَقَالَ آخَرُ:

خَلِيلَانِ مُخْتَلِفٌ شَكْلُنَا ... أُرِيدُ الْعَلَاءَ وَيَبْغِي السِّمَنْ

أُرِيدُ دِمَاءَ بَنِي مَالِكٍ ... وَرَأْيُ الْمُعَلَّى بَيَاضُ اللَّبَنْ

وَهَذَا وَإِنْ كَانَتْ الشَّرِيعَةُ قَدْ أَبْطَلَتْهُ وَجَاءَتْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَأَصْلَحُ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ مِنْ تَخْيِيرِ الْأَوْلِيَاءِ بَيْنَ إدْرَاكِ الثَّأْرِ وَنَيْلِ التَّشَفِّي وَبَيْنَ أَخْذِ الدِّيَةِ فَإِنَّ الْقَصْدَ بِهِ أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَكُنْ تُعَيِّرُ مَنْ أَخَذَ بَدَلَ مَالِهِ، وَلَمْ تُعَدَّهُ ضَعْفًا وَلَا عَجْزًا أَلْبَتَّةَ، بِخِلَافِ مَنْ أَخَذَ بَدَلَ دَمِ وَلِيِّهِ، فَمَا سَوَّى اللَّهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي طَبْعٍ، وَلَا عَقْلٍ وَلَا شَرْعٍ، وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَخْرِقُ ثَوْبَهُ عِنْدَ الْغَيْظِ، وَيَذْبَحُ مَاشِيَتَهُ، وَيُتْلِفُ مَالَهُ، فَلَا يَلْحَقُهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالْغَيْظِ وَالِازْدِرَاءِ بِهِ مَا يُلْحِقُ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ أَوْ جَدَعَ أَنْفَهُ أَوْ قَلَعَ عَيْنَهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>