للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَصْلٌ [لَيْسَ مِنْ الْحِكْمَةِ إتْلَافُ كُلِّ عُضْوٍ وَقَعَتْ بِهِ مَعْصِيَةٌ]

وَأَمَّا مُعَاقَبَةُ السَّارِقِ بِقَطْعِ يَدِهِ وَتَرْكِ مُعَاقَبَةِ الزَّانِي بِقَطْعِ فَرْجِهِ فَفِي غَايَةِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَلَيْسَ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ وَمَصْلَحَةِ خَلْقِهِ وَعِنَايَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ أَنْ يُتْلِفَ عَلَى كُلِّ جَانٍ كُلَّ عُضْوٍ عَصَاهُ بِهِ، فَيَشْرَعُ قَلْعَ عَيْنِ مَنْ نَظَرَ إلَى الْمُحَرَّمِ وَقَطْعَ أُذُنِ مَنْ اسْتَمَعَ إلَيْهِ، وَلِسَانِ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ، وَيَدِ مَنْ لَطَمَ غَيْرَهُ عُدْوَانًا، وَلَا خَفَاءَ بِمَا فِي هَذَا مِنْ الْإِسْرَافِ وَالتَّجَاوُزِ فِي الْعُقُوبَةِ وَقَلْبِ مَرَاتِبِهَا؛ وَأَسْمَاءُ الرَّبِّ الْحُسْنَى وَصِفَاتُهُ الْعُلْيَا وَأَفْعَالُهُ الْحَمِيدَةُ تَأْبَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ مُجَرَّدَ الْأَمْنِ مِنْ الْمُعَاوَدَةِ لَيْسَ إلَّا، وَلَوْ أُرِيدَ هَذَا لَكَانَ قَتَلَ صَاحِبَ الْجَرِيمَةِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الزَّجْرُ وَالنَّكَالُ وَالْعُقُوبَةُ عَلَى الْجَرِيمَةِ، وَأَنْ يَكُونَ إلَى كَفِّ عُدْوَانِهِ أَقْرَبَ، وَأَنْ يَعْتَبِرَ بِهِ غَيْرُهُ، وَأَنْ يُحْدِثَ لَهُ مَا يَذُوقُهُ مِنْ الْأَلَمِ تَوْبَةً نَصُوحًا، وَأَنْ يُذَكِّرَهُ ذَلِكَ بِعُقُوبَةِ الْآخِرَةِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ.

[الْحِكْمَةُ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ]

ثُمَّ إنَّ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ السَّرِقَةَ إنَّمَا تَقَعُ مِنْ فَاعِلِهَا سِرًّا كَمَا يَقْتَضِيهِ اسْمُهَا، وَلِهَذَا يَقُولُونَ: " فُلَانٌ يَنْظُرُ إلَى فُلَانٍ مُسَارَقَةً " إذَا كَانَ يَنْظُرُ إلَيْهِ نَظَرًا خَفِيًّا لَا يُرِيدُ أَنْ يَفْطِنَ لَهُ، وَالْعَازِمُ عَلَى السَّرِقَةِ مُخْتَفٍ كَاتِمٌ خَائِفٌ أَنْ يُشْعَرَ بِمَكَانِهِ فَيُؤْخَذَ بِهِ، ثُمَّ هُوَ مُسْتَعِدٌّ لِلْهَرَبِ وَالْخَلَاصِ بِنَفْسِهِ إذَا أَخَذَ الشَّيْءَ، وَالْيَدَانِ لِلْإِنْسَانِ كَالْجَنَاحَيْنِ لِلطَّائِرِ فِي إعَانَتِهِ عَلَى الطَّيَرَانِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: " وَصَلْت جَنَاحَ فُلَانٍ " إذَا رَأَيْته يَسِيرُ مُنْفَرِدًا فَانْضَمَمْت إلَيْهِ لِتَصْحَبَهُ، فَعُوقِبَ السَّارِقُ بِقَطْعِ الْيَدِ قَصًّا لِجَنَاحِهِ، وَتَسْهِيلًا لِأَخْذِهِ إنْ عَاوَدَ السَّرِقَةَ، فَإِذَا فَعَلَ بِهِ هَذَا فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ بَقِيَ مَقْصُوصَ أَحَدِ الْجَنَاحَيْنِ ضَعِيفًا فِي الْعَدْوِ، ثُمَّ يَقْطَعُ فِي الثَّانِيَةِ رِجْلَهُ فَيَزْدَادُ ضَعْفًا فِي عَدْوِهِ، فَلَا يَكَادُ يَفُوتُ الطَّالِبَ، ثُمَّ تُقْطَعُ يَدُهُ الْأُخْرَى فِي الثَّالِثَةِ وَرِجْلُهُ الْأُخْرَى فِي الرَّابِعَةِ، فَيَبْقَى لَحْمًا عَلَى وَضَمٍ، فَيَسْتَرِيحُ وَيُرِيحُ.

[الْحِكْمَةُ فِي حَدِّ الزِّنَا وَتَنْوِيعِهِ]

وَأَمَّا الزَّانِي فَإِنَّهُ يَزْنِي بِجَمِيعِ بَدَنِهِ، وَالتَّلَذُّذُ بِقَضَاءِ شَهْوَتِهِ يَعُمُّ الْبَدَنَ، وَالْغَالِبُ مِنْ فِعْلِهِ وُقُوعُهُ بِرِضَا الْمَزْنِيِّ بِهَا، فَهُوَ غَيْرُ خَائِفٍ مَا يَخَافُهُ السَّارِقُ مِنْ الطَّلَبِ، فَعُوقِبَ بِمَا يَعُمُّ بَدَنَهُ مِنْ الْجَلْدِ مَرَّةً وَالْقَتْلِ بِالْحِجَارَةِ مَرَّةً؛ وَلَمَّا كَانَ الزِّنَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْجَرَائِمِ وَكَبَائِرِ الْمَعَاصِي لِمَا فِيهِ مِنْ اخْتِلَافِ الْأَنْسَابِ الَّذِي يَبْطُلُ مَعَهُ التَّعَارُفُ وَالتَّنَاصُرُ عَلَى إحْيَاءِ الدِّينِ، وَفِي هَذَا هَلَاكُ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ فَشَاكَلَ فِي مَعَانِيهِ أَوْ فِي أَكْثَرِهَا الْقَتْلَ الَّذِي فِيهِ هَلَاكُ ذَلِكَ،

<<  <  ج: ص:  >  >>