للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَزُجِرَ عَنْهُ بِالْقِصَاصِ لِيَرْتَدِعَ عَنْ مِثْلِ فِعْلِهِ مَنْ يَهُمُّ بِهِ، فَيَعُودُ ذَلِكَ بِعِمَارَةِ الدُّنْيَا وَصَلَاحِ الْعَالَمِ الْمُوَصِّلِ إلَى إقَامَةِ الْعِبَادَاتِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ.

ثُمَّ إنَّ لِلزَّانِي حَالَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُحْصَنًا قَدْ تَزَوَّجَ، فَعَلِمَ مَا يَقَعُ بِهِ مِنْ الْعَفَافِ عَنْ الْفُرُوجِ الْمُحَرَّمَةِ، وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنْهَا، وَأَحْرَزَ نَفْسَهُ عَنْ التَّعَرُّضِ لِحَدِّ الزِّنَا، فَزَالَ عُذْرُهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فِي تَخَطِّي ذَلِكَ إلَى مُوَاقَعَةِ الْحَرَامِ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ بِكْرًا، لَمْ يَعْلَمْ مَا عَلِمَهُ الْمُحْصَنُ وَلَا عَمِلَ مَا عَمِلَهُ؛ فَحَمَلَ لَهُ مِنْ الْعُذْرِ بَعْضَ مَا أَوْجَبَ لَهُ التَّخْفِيفَ؛ فَحُقِنَ دَمُهُ، وَزُجِرَ بِإِيلَامِ جَمِيعِ بَدَنِهِ بِأَعْلَى أَنْوَاعِ الْجَلْدِ رَدْعًا عَنْ الْمُعَاوَدَةِ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِالْحَرَامِ، وَبَعْثًا لَهُ عَلَى الْقَنَعِ بِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْحَلَالِ.

وَهَذَا فِي غَايَةِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، جَامِعٌ لِلتَّخْفِيفِ فِي مَوْضِعِهِ وَالتَّغْلِيظُ فِي مَوْضِعِهِ.

وَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَطْعِ لِسَانِ الشَّاتِمِ وَالْقَاذِفِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْإِسْرَافِ وَالْعُدْوَانِ؟ ثُمَّ إنَّ قَطْعَ فَرْجِ الزَّانِي فِيهِ مِنْ تَعْطِيلِ النَّسْلِ، وَقَطْعُهُ عَكْسُ مَقْصُودِ الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ تَكْثِيرِ الذُّرِّيَّةِ وَذُرِّيَّتِهِمْ فِيمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، وَفِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ أَضْعَافُ مَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ الزَّجْرِ، وَفِيهِ إخْلَاءُ جَمِيعِ الْبَدَنِ مِنْ الْعُقُوبَةِ، وَقَدْ حَصَلَتْ جَرِيمَةُ الزِّنَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ؛ فَكَانَ مِنْ الْعَدْلِ أَنْ تَعُمَّهُ الْعُقُوبَةُ، ثُمَّ إنَّهُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ، وَكِلَاهُمَا زَانٍ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْعُقُوبَةِ، فَكَانَ شَرْعُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَكْمَلَ مِنْ اقْتِرَاحِ الْمُقْتَرِحِينَ.

[إتْلَافُ النَّفْسِ عُقُوبَةُ أَفْظَعِ أَنْوَاعِ الْجَرَائِمِ]

وَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَاءَ إتْلَافُ النُّفُوسِ فِي مُقَابَلَةِ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَأَعْظَمِهَا ضَرَرًا وَأَشَدِّهَا فَسَادًا لِلْعَالَمِ، وَهِيَ الْكُفْرُ الْأَصْلِيُّ وَالطَّارِئُ، وَالْقَتْلُ وَزِنَا الْمُحْصَنِ، وَإِذَا تَأَمَّلَ الْعَاقِلُ فَسَادَ الْوُجُودِ رَآهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ، وَهَذِهِ هِيَ الثَّلَاثُ الَّتِي «أَجَابَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بِهَا حَيْثُ قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك، قَالَ: قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك، قَالَ: قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك» فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان: ٦٨] الْآيَةَ.

[تَرْتِيبُ الْحَدِّ تَبَعًا لِتَرْتِيبِ الْجَرَائِمِ]

ثُمَّ لَمَّا كَانَ سَرِقَةُ الْأَمْوَالِ تَلِي ذَلِكَ فِي الضَّرَرِ وَهُوَ دُونَهُ جَعَلَ عُقُوبَتَهُ قَطْعَ الطَّرَفِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْقَذْفُ دُونَ سَرِقَةِ الْمَالِ فِي الْمَفْسَدَةِ جَعَلَ عُقُوبَتَهُ دُونَ ذَلِكَ وَهُوَ الْجَلْدُ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ

<<  <  ج: ص:  >  >>