للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شُرْبُ الْمُسْكِرِ أَقَلَّ مَفْسَدَةً مِنْ ذَلِكَ جَعَلَ حَدَّهُ دُونَ حَدِّ هَذِهِ الْجِنَايَاتِ كُلِّهَا، ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ مَفَاسِدُ الْجَرَائِمِ بَعْدُ مُتَفَاوِتَةً غَيْرَ مُنْضَبِطَةٍ فِي الشِّدَّةِ وَالضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ - وَهِيَ مَا بَيْنَ النَّظْرَةِ وَالْخَلْوَةِ وَالْمُعَانَقَةِ - جُعِلَتْ عُقُوبَاتُهَا رَاجِعَةً إلَى اجْتِهَادِ الْأَئِمَّةِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ، بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَبِحَسَبِ أَرْبَابِ الْجَرَائِمِ فِي أَنْفُسِهِمْ؛ فَمَنْ سَوَّى بَيْنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ وَبَيْنَ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَحْوَالِ لَمْ يَفْقَهْ حِكْمَةَ الشَّرْعِ، وَاخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَسِيرَةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَكَثِيرٌ مِنْ النُّصُوصِ، وَرَأَى عُمَرُ قَدْ زَادَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ عَلَى أَرْبَعِينَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا جَلَدَ أَرْبَعِينَ، وَعَزَّرَ بِأُمُورٍ لَمْ يُعَزِّرْ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَنْفَذَ عَلَى النَّاسِ أَشْيَاءَ عَفَا عَنْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيَظُنُّ ذَلِكَ تَعَارُضًا وَتَنَاقُضًا، وَإِنَّمَا أَتَى مِنْ قُصُورِ عِلْمِهِ وَفَهْمِهِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

[فَصَلِّ سَوَّى اللَّهُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ فِي أَحْكَامٍ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي أُخْرَى]

وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَجَعَلَ حَدَّ الرَّقِيقِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ، وَحَاجَتُهُمَا إلَى الزَّجْرِ وَاحِدَةٌ " فَلَا رَيْبَ أَنَّ الشَّارِعَ فَرَّقَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِي أَحْكَامٍ وَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي أَحْكَامٍ؛ فَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَوُجُوبِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِهِمَا، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالتَّكْفِيرِ بِالْمَالِ؛ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي سَبَبِهِمَا.

وَأَمَّا الْحُدُودُ فَلَمَّا كَانَ وُقُوعُ الْمَعْصِيَةِ مِنْ الْحُرِّ أَقْبَحَ مِنْ وُقُوعِهَا مِنْ الْعَبْدِ مِنْ جِهَةِ كَمَالِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ بِالْحُرِّيَّةِ، وَأَنْ جَعَلَهُ مَالِكًا لَا مَمْلُوكًا، وَلَمْ يَجْعَلْهُ تَحْتَ قَهْرِ غَيْرِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِيهِ، وَمِنْ جِهَةِ تَمَكُّنِهِ بِأَسْبَابِ الْقُدْرَةِ مِنْ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ بِمَا عَوَّضَ اللَّهُ عَنْهَا مِنْ الْمُبَاحَاتِ، فَقَابَلَ النِّعْمَةَ التَّامَّةَ بِضِدِّهَا، وَاسْتَعْمَلَ الْقُدْرَةَ فِي الْمَعْصِيَةِ، فَاسْتَحَقَّ مِنْ الْعُقُوبَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ هُوَ أَخْفَضُ مِنْهُ رُتْبَةً وَأَنْقَصُ مَنْزِلَةً؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ كُلَّمَا كَمُلَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَتْ عُقُوبَتُهُ إذَا ارْتَكَبَ الْجَرَائِمَ أَتَمَّ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ مَنْ أَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِنَّ مِنْ النِّسَاءِ: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب: ٣٠] {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب: ٣١] وَهَذَا عَلَى وَفْقِ قَضَايَا الْعُقُولِ وَمُسْتَحْسِنَاتهَا؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ كُلَّمَا كَمُلَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ تَكُونَ طَاعَتُهُ لَهُ أَكْمَلَ، وَشُكْرُهُ لَهُ أَتَمَّ، وَمَعْصِيَتُهُ لَهُ أَقْبَحَ، وَشِدَّةُ الْعُقُوبَةِ تَابِعَةٌ لِقُبْحِ الْمَعْصِيَةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمًا لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، فَإِنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَى الْجَاهِلِ، وَصُدُورُ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ أَقْبَحُ مِنْ صُدُورِهَا مِنْ الْجَاهِلِ، وَلَا يَسْتَوِي عِنْدَ الْمُلُوكِ

<<  <  ج: ص:  >  >>