للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَهَذَا نَذْرٌ مُؤَكَّدٌ بِيَمِينٍ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ فِيهِ " فَعَلَيَّ " إذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَرْطِ النَّذْرِ، بَلْ إذَا قَالَ: إنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ تَصَدَّقْت، أَوْ لَأَتَصَدَّقَنَّ، فَهُوَ وَعْدٌ وَعَدَهُ اللَّهَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَفِيَ بِهِ، وَإِلَّا دَخَلَ فِي قَوْلِهِ: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: ٧٧] فَوَعْدُ الْعَبْدِ رَبَّهُ نَذْرٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفِيَ لَهُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ جَعَلَهُ جَزَاءً وَشُكْرًا لَهُ عَلَى نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ، فَجَرَى مَجْرَى عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ لَا عُقُودَ التَّبَرُّعَاتِ، وَهُوَ أَوْلَى بِاللُّزُومِ مِنْ أَنْ يَقُولَ ابْتِدَاءً: " لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا " فَإِنَّ هَذَا الْتِزَامٌ مِنْهُ لِنَفْسِهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ تَعْلِيقٌ بِشَرْطٍ وَقَدْ وُجِدَ، فَيَجِبُ فِعْلُ الْمَشْرُوطِ عِنْدَهُ؛ لِالْتِزَامِهِ لَهُ بِوَعْدِهِ.

فَإِنَّ الِالْتِزَامَ تَارَةً يَكُونُ بِصَرِيحِ الْإِيجَابِ، وَتَارَةً يَكُونُ بِالْوَعْدِ، وَتَارَةً يَكُونُ بِالشُّرُوعِ كَشُرُوعِهِ فِي الْجِهَادِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَالِالْتِزَامُ بِالْوَعْدِ آكَدُ مِنْ الِالْتِزَامِ بِالشُّرُوعِ، وَآكَدُ مِنْ الِالْتِزَامِ بِصَرِيحِ الْإِيجَابِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ مَنْ خَالَفَ مَا الْتَزَمَهُ لَهُ بِالْوَعْدِ، وَعَاقَبَهُ بِالنِّفَاقِ فِي قَلْبِهِ، وَمَدَحَ مَنْ وَفَى بِمَا نَذَرَهُ لَهُ، وَأَمَرَ بِإِتْمَامِ مَا شَرَعَ فِيهِ لَهُ مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَجَاءَ الِالْتِزَامُ بِالْوَعْدِ آكَدُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، وَإِخْلَافُهُ يُعْقِبُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ، وَأَمَّا إذَا حَلَفَ يَمِينًا مُجَرَّدَةً لَيَفْعَلَنَّ كَذَا فَهَذَا حَضٌّ مِنْهُ لِنَفْسِهِ، وَحَثٌّ عَلَى فِعْلِهِ بِالْيَمِينِ، وَلَيْسَ إيجَابًا عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْيَمِينَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا وَلَا تُحَرِّمُهُ، وَلَكِنَّ الْحَالِفَ عَقَدَ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ لَيَفْعَلَنَّهُ، فَأَبَاحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ حِلَّ مَا عَقَدَهُ بِالْكَفَّارَةِ، وَلِهَذَا سَمَّاهَا اللَّهُ تَحِلَّةً، فَإِنَّهَا تُحِلُّ عَقْدَ الْيَمِينِ، وَلَيْسَتْ رَافِعَةً لِإِثْمِ الْحِنْثِ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّ الْحِنْثَ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، فَيُؤْمَرُ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا، فَالشَّارِعُ لَمْ يُبِحْ سَبَبَ الْإِثْمِ، وَإِنَّمَا شَرَعَهَا اللَّهُ حِلًّا لِعَقْدِ الْيَمِينِ كَمَا شَرَعَ اللَّهُ الِاسْتِثْنَاءَ مَانِعًا مِنْ عَقْدِهَا؛ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا الْتَزَمَ لِلَّهِ وَبَيْنَ مَا الْتَزَمَ بِاَللَّهِ.

فَالْأَوَّلُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا الْوَفَاءُ، وَالثَّانِي يُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْوَفَاءِ وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ حَيْثُ يَسُوغُ ذَلِكَ، وَسِرُّ هَذَا أَنَّ مَا الْتَزَمَ لَهُ آكَدُ مِمَّا الْتَزَمَ بِهِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ مُتَعَلِّقٌ بِإِلَهِيَّتِهِ، وَالثَّانِيَ بِرُبُوبِيَّتِهِ؛ فَالْأَوَّلُ مِنْ أَحْكَامِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: ٥] وَالثَّانِي مِنْ أَحْكَامِ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥] وَإِيَّاكَ نَعْبُدُ قِسْمُ اللَّهِ مِنْ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قِسْمُ الْعَبْدِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ: «هَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ» وَبِهَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ إيرَادِ هَذَا السُّؤَالِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَأَنَّ مَا نَذَرَهُ لِلَّهِ مِنْ هَذِهِ الطَّاعَاتِ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَمَا أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِهِ وَبَيْنَ التَّكْفِيرِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُتَعَلِّقٌ بِإِلَهِيَّتِهِ.

وَالثَّانِيَ بِرُبُوبِيَّتِهِ، فَوَجَبَ الْوَفَاءُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَيُخَيَّرُ الْحَالِفُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهَذَا مِنْ أَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ، وَكَمَالِهَا وَعِظَمِهَا.

وَيَزِيدُ ذَلِكَ وُضُوحًا أَنَّ الْحَالِفَ بِالْتِزَامِ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ قَصْدُهُ أَلَّا تَكُونَ، وَلِكَرَاهَتِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>