للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ ذَكَرَ الْجَنَّةَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَهَؤُلَاءِ ضِدُّ الْمُرَابِينَ، فَنَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ الرِّبَا الَّذِي هُوَ ظُلْمٌ لِلنَّاسِ، وَأَمَرَ بِالصَّدَقَةِ الَّتِي هِيَ إحْسَانٌ إلَيْهِمْ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» وَمِثْلُ هَذَا يُرَادُ بِهِ حَصْرُ الْكَمَالِ وَأَنَّ الرِّبَا الْكَامِلَ إنَّمَا هُوَ فِي النَّسِيئَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: ٢] إلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: ٤] وَكَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " إنَّمَا الْعَالِمُ الَّذِي يَخْشَى اللَّهَ ".

[فَصَلِّ رِبَا الْفَضْلِ]

فَصْلٌ:

[رِبَا الْفَضْلِ]

وَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَتَحْرِيمُهُ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ؛ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرِّمَّا» وَالرِّمَّا هُوَ الرِّبَا، فَمَنَعَهُمْ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ لِمَا يَخَافُهُ عَلَيْهِمْ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إذَا بَاعُوا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، وَلَا يُفْعَلُ هَذَا إلَّا لِلتَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَ النَّوْعَيْنِ - إمَّا فِي الْجَوْدَةِ، وَإِمَّا فِي السِّكَّةِ، وَإِمَّا فِي الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ - تَدَرَّجُوا بِالرِّبْحِ الْمُعَجَّلِ فِيهَا إلَى الرِّبْحِ الْمُؤَخَّرِ، وَهُوَ عَيْنُ رِبَا النَّسِيئَةِ، وَهَذِهِ ذَرِيعَةٌ قَرِيبَةٌ جِدًّا؛ فَمِنْ حِكْمَةِ الشَّارِعِ أَنْ سَدَّ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الذَّرِيعَةَ، وَمَنَعَهُمْ مِنْ بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ نَقْدًا وَنَسِيئَةً؛ فَهَذِهِ حِكْمَةٌ مَعْقُولَةٌ مُطَابِقَةٌ لِلْعُقُولِ، وَهِيَ تَسُدُّ عَلَيْهِمْ بَابَ الْمَفْسَدَةِ.

[الْأَجْنَاسُ الَّتِي يَحْرُمُ فِيهَا رِبَا الْفَضْلِ وَآرَاءِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ]

فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَنَقُولُ: الشَّارِعُ نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ فِي سِتَّةِ أَعْيَانٍ، وَهِيَ الذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ، وَالْبُرُّ، وَالشَّعِيرُ، وَالتَّمْرُ، وَالْمِلْحُ، فَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهَا مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَتَنَازَعُوا فِيمَا عَدَاهَا؛ فَطَائِفَةٌ قَصَرَتْ التَّحْرِيمَ عَلَيْهَا، وَأَقْدَمُ مَنْ يُرْوَى هَذَا عَنْهُ قَتَادَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَاخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ فِي آخِرِ مُصَنَّفَاتِهِ مَعَ قَوْلِهِ بِالْقِيَاسِ، قَالَ: لِأَنَّ عِلَلَ الْقِيَاسِيَّيْنِ فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا عِلَلٌ ضَعِيفَةٌ، وَإِذَا لَمْ تَظْهَرْ فِي عِلَّةٍ امْتَنَعَ الْقِيَاسُ.

وَطَائِفَةٌ حَرَّمَتْهُ فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ بِجِنْسِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ عَمَّارٍ وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَطَائِفَةٌ خَصَّتْهُ بِالطَّعَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَكِيلًا وَلَا مَوْزُونًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَطَائِفَةٌ خَصَّتْهُ بِالطَّعَامِ إذَا كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ

<<  <  ج: ص:  >  >>