للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْحُكْمَ بِالْكِتَابِ عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فِي الْكِتَابِ وَوَجَدَهُ فِي السُّنَّةِ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى غَيْرِهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فِي السُّنَّةِ قَضَى بِمَا قَضَى بِهِ الصَّحَابَةُ.

وَنَحْنُ نُنَاشِدُ اللَّهَ فِرْقَةَ التَّقْلِيدِ: هَلْ هُمْ كَذَلِكَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ؟ وَهَلْ إذَا نَزَلَتْ بِهِمْ نَازِلَةٌ حَدَّثَ أَحَدٌ مِنْهُمْ نَفْسَهُ أَنْ يَأْخُذَ حُكْمَهَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ثُمَّ يُنَفِّذُهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَخَذَهَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا فِي السُّنَّةِ أَفْتَى فِيهَا بِمَا أَفْتَى بِهِ الصَّحَابَةُ؟ وَاَللَّهُ يَشْهَدُ عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ وَهُمْ شَاهِدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَأْخُذُونَ حُكْمَهَا مِنْ قَوْلِ مَنْ قَلَّدُوهُ، وَإِنْ اسْتَبَانَ لَهُمْ فِي الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ خِلَافُ ذَلِكَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْهِ، وَلَمْ يَأْخُذُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ إلَّا بِقَوْلِ مَنْ قَلَّدُوهُ؛ فَكِتَابُ عُمَرَ مِنْ أَبْطَلْ الْأَشْيَاءِ وَأَكْسَرِهَا لِقَوْلِهِمْ، وَهَذَا كَانَ سَيْرَ السَّلَفِ الْمُسْتَقِيمَ وَهَدْيَهُمْ الْقَوِيمَ.

[طَرِيقُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي أَخْذِ الْأَحْكَامِ]

فَلَمَّا انْتَهَتْ النَّوْبَةُ إلَى الْمُتَأَخِّرِينَ سَارُوا عَكْسَ هَذَا السَّيْرِ، وَقَالُوا: إذَا نَزَلَتْ النَّازِلَةُ بِالْمُفْتِي أَوْ الْحَاكِمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ أَوَّلًا: هَلْ فِيهَا اخْتِلَافٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا اخْتِلَافٌ لَمْ يَنْظُرْ فِي كِتَابٍ وَلَا فِي سُنَّةٍ، بَلْ يُفْتِي وَيَقْضِي فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا اخْتِلَافٌ اجْتَهَدَ فِي أَقْرَبِ الْأَقْوَالِ إلَى الدَّلِيلِ فَأَفْتَى بِهِ وَحَكَمَ بِهِ.

وَهَذَا خِلَافُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ مُعَاذٍ وَكِتَابُ عُمَرَ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ. وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ أَوْلَى فَإِنَّهُ مَقْدُورٌ مَأْمُورٌ، فَإِنْ عِلْمَ الْمُجْتَهِدُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ أَسْهَلُ عَلَيْهِ بِكَثِيرٍ مِنْ عِلْمِهِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ فِي شَرْقِ الْأَرْضِ وَغَرْبِهَا عَلَى الْحُكْمِ.

وَهَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَذِّرًا فَهُوَ أَصْعُبُ شَيْءٍ وَأَشَقُّهُ إلَّا فِيمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِسْلَامِ، فَكَيْفَ يُحِيلُنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى مَا لَا وُصُولَ لَنَا إلَيْهِ وَيُتْرَكُ الْحَوَالَةَ عَلَى كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ اللَّذَيْنِ هَدَانَا بِهِمَا، وَيَسَّرَهُمَا لَنَا، وَجَعَلَ لَنَا إلَى مَعْرِفَتِهِمَا طَرِيقًا سَهْلَةَ التَّنَاوُلِ مِنْ قُرْبٍ؟ ثُمَّ مَا يُدْرِيهِ فَلَعَلَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، وَلَيْسَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالنِّزَاعِ عِلْمًا بِعَدَمِهِ، فَكَيْفَ يُقَدِّمُ عَدَمَ الْعِلْمِ عَلَى أَصْلِ الْعِلْمِ كُلِّهِ؟ ثُمَّ كَيْفَ يَسُوغُ لَهُ تَرْكُ الْحَقِّ الْمَعْلُومِ إلَى أَمْرٍ لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مَوْهُومًا، وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مَشْكُوكًا فِيهِ شَكًّا مُتَسَاوِيًا أَوْ رَاجِحًا؟ ثُمَّ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ: انْقِرَاضُ عَصْرِ الْمُجْمِعِينَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ؟ فَمَا لَمْ يَنْقَرِضْ عَصْرُهُمْ فَلِمَنْ نَشَأَ فِي زَمَنِهِمْ أَنْ يُخَالِفَهُمْ، فَصَاحِبُ هَذَا السُّلُوكِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ الْعَصْرَ انْقَرَضَ وَلَمْ يَنْشَأْ فِيهِ مُخَالِفٌ لِأَهْلِهِ؟ وَهَلْ أَحَالَ اللَّهُ الْأُمَّةَ فِي الِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عَلَى مَا لَا سَبِيلَ لَهُمْ إلَيْهِ وَلَا اطِّلَاعَ لِأَفْرَادِهِمْ عَلَيْهِ؟ وَتَرْكِ إحَالَتِهِمْ عَلَى مَا هُوَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ بَاقِيَةٌ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ مُتَمَكِّنُونَ مِنْ الِاهْتِدَاءِ بِهِ وَمَعْرِفَةِ الْحَقِّ مِنْهُ، وَهَذَا مِنْ أَمْحَلْ الْمُحَالِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>