للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَرَسُولِهِ، وَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْمُخْبِرِينَ فَقَطْ، لَمْ تَكُنْ فَتْوَاهُمْ تَقْلِيدًا لِرَأْيِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَإِنْ خَالَفَتْ النُّصُوصَ؛ فَهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُقَلِّدُونَ فِي فَتْوَاهُمْ، وَلَا يُفْتُونَ بِغَيْرِ النُّصُوصِ، وَلَمْ يَكُنْ الْمُسْتَفْتُونَ لَهُمْ يَعْتَمِدُونَ إلَّا عَلَى مَا يَبْلُغُونَهُمْ إيَّاهُ عَنْ نَبِيِّهِمْ فَيَقُولُونَ: أَمَرَ بِكَذَا، وَفَعَلَ كَذَا، وَنَهَى عَنْ كَذَا، هَكَذَا كَانَتْ فَتْوَاهُمْ؛ فَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْتَفْتِينَ كَمَا هِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْتَفْتِينَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ إلَّا فِي الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ وَعَدَمِهَا، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ وَأَنَّ مُسْتَفْتِيَهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا إلَّا بِمَا عَلِمُوهُ عَنْ نَبِيِّهِمْ وَشَاهَدُوهُ وَسَمِعُوهُ مِنْهُ، هَؤُلَاءِ بِوَاسِطَةٍ وَهَؤُلَاءِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَأْخُذُ قَوْلَ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ يُحَلِّلُ مَا حَلَّلَهُ وَيُحَرِّمُ مَا حَرَّمَهُ وَيَسْتَبِيحُ مَا أَبَاحَهُ، وَقَدْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ السُّنَّةِ مِنْهُمْ، كَمَا أَنْكَرَ عَلَى أَبِي السَّنَابِلِ وَكَذَّبَهُ، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ أَفْتَى بِرَجْمِ الزَّانِي الْبِكْرِ، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ أَفْتَى بِاغْتِسَالِ الْجَرِيحِ حَتَّى مَاتَ، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ كَمَنْ يُفْتِي بِمَا لَا يَعْلَمُ صِحَّتَهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ إثْمَ الْمُسْتَفْتِي عَلَيْهِ، فَإِفْتَاءُ الصَّحَابَةِ فِي حَيَاتِهِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: كَانَ يَبْلُغُهُ وَيُقِرُّهُمْ عَلَيْهِ، فَهُوَ حُجَّةٌ بِإِقْرَارِهِ لَا بِمُجَرَّدِ إفْتَائِهِمْ، الثَّانِي: مَا كَانُوا يُفْتُونَ بِهِ مُبَلِّغِينَ لَهُ عَنْ نَبِيِّهِمْ، فَهُمْ فِيهِ رُوَاةٌ لَا مُقَلِّدُونَ وَلَا مُقَلَّدُونَ.

[إنْذَارِ مَنْ نَفَرَ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ]

[الْمُرَادُ مِنْ إيجَابِ اللَّهِ قَبُولَ إنْذَارِ مَنْ نَفَرَ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ]

الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: قَوْلُكُمْ: " وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: ١٢٢] فَأَوْجَبَ قَبُولَ نِذَارَتِهِمْ، وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ لَهُمْ " جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ قَبُولَ مَا أَنْذَرُوهُمْ بِهِ مِنْ الْوَحْيِ الَّذِي يَنْزِلُ فِي غَيْبَتِهِمْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجِهَادِ، فَأَيْنَ فِي هَذَا حُجَّةٌ لِفِرْقَةِ التَّقْلِيدِ عَلَى تَقْدِيمِ آرَاءِ الرِّجَالِ عَلَى الْوَحْيِ؟ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ظَاهِرَةٌ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ نَوَّعَ عُبُودِيَّتَهُمْ وَقِيَامَهُمْ بِأَمْرِهِ إلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَفِيرُ الْجِهَادِ، وَالثَّانِي: التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ، وَجَعَلَ قِيَامَ الدِّينِ بِهَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ، وَهُمْ الْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ أَهْلُ الْجِهَادِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ؛ فَالنَّافِرُونَ يُجَاهِدُونَ عَنْ الْقَاعِدِينَ، وَالْقَاعِدُونَ يَحْفَظُونَ الْعِلْمَ لِلنَّافِرِينَ، فَإِذَا رَجَعُوا مِنْ نَفِيرِهِمْ اسْتَدْرَكُوا مَا فَاتَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِإِخْبَارِ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُنَا لِلنَّاسِ فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْنَى " فَهَلَّا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ طَائِفَةٌ تَتَفَقَّهُ وَتُنْذِرُ الْقَاعِدَةَ " فَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ، وَاحْتَجُّوا بِهِ عَلَى قَوْلِ خَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَدَدَ التَّوَاتُرِ.

وَالثَّانِي أَنَّ الْمَعْنَى " فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ طَائِفَةٌ تُجَاهِدُ لِتَتَفَقَّهَ الْقَاعِدَةُ وَتُنْذِرَ النَّافِرَةَ لِلْجِهَادِ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ وَيُخْبِرُونَهُمْ بِمَا نَزَلَ بَعْدَهُمْ مِنْ الْوَحْيِ " وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛

<<  <  ج: ص:  >  >>