للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَرَكْنَا تَقْلِيدَ الشَّاهِدِ لَمْ يَلْزَمْ بِهِ حُكْمٌ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْضِي بِالشَّاهِدِ وَبِالْإِقْرَارِ، وَذَلِكَ حُكْمٌ بِنَفْسِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَا بِالتَّقْلِيدِ؛ فالاستدلالة بِذَلِكَ عَلَى التَّقْلِيدِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْإِعْرَاضِ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، وَتَقْدِيمِ آرَاءِ الرِّجَالِ عَلَيْهَا، وَتَقْدِيمِ قَوْلِ الرَّجُلِ عَلَى مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ وَاطِّرَاحِ قَوْلِ مَنْ عَدَاهُ جُمْلَةً، مِنْ بَابِ قَلْبِ الْحَقَائِقِ وَانْتِكَاسِ الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَنَحْنُ إذَا قَبِلْنَا قَوْلَ الشَّاهِدِ لَمْ نَقْبَلْهُ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ شَهِدَ بِهِ، بَلْ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَنَا بِقَبُولِ قَوْلِهِ، فَأَنْتُمْ مَعَاشِرَ الْمُقَلِّدِينَ إذَا قَبِلْتُمْ قَوْلَ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ قَبِلْتُمُوهُ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ قَالَهُ أَوْ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِقَبُولِ قَوْلِهِ وَطَرْحِ قَوْلِ مَنْ سِوَاهُ.

[لَيْسَ مِنْ التَّقْلِيدِ قَبُولُ قَوْلِ الْقَائِفِ وَنَحْوِهِ]

الْوَجْهُ السِّتُّونَ: قَوْلُكُمْ: " وَقَدْ جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِقَبُولِ قَوْلِ الْقَائِفِ وَالْخَارِصِ وَالْقَاسِمِ وَالْمُقَوِّمِ وَالْحَاكِمِينَ بِالْمِثْلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ مَحْضٌ " أَتَعْنُونَ بِهِ أَنَّهُ تَقْلِيدٌ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي قَبُولِ أَقْوَالِهِمْ أَوْ تَقْلِيدٌ لَهُمْ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ؟ فَإِنْ عَنَيْتُمْ الْأَوَّلَ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ عَنَيْتُمْ الثَّانِيَ فَلَيْسَ فِيهِ مَا تَسْتَرْوِحُونَ إلَيْهِ مِنْ التَّقْلِيدِ الَّذِي قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَقَبُولُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ مِنْ بَابِ قَبُولِ خَبَرِ الْمُخْبِرِ وَالشَّاهِدِ، لَا مِنْ بَابِ قَبُولِ الْفُتْيَا فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ قِيَامِ دَلِيلٍ عَلَى صِحَّتِهَا، بَلْ لِمُجَرَّدِ إحْسَانِ الظَّنِّ بِقَائِلِهَا مَعَ تَجْوِيزِ الْخَطَأِ عَلَيْهِ، فَأَيْنَ قَبُولُ الْإِخْبَارِ وَالشَّهَادَاتِ وَالْأَقَارِيرِ إلَى التَّقْلِيدِ فِي الْفَتْوَى؟ ، وَالْمُخْبِرُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ يُخْبِرُ عَنْ أَمْرٍ حِسِّيٍّ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِ إدْرَاكُهُ بِالْحَوَاسِّ وَالْمَشَاعِرِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَبُولِ خَبَرِ الْمُخْبِرِ بِهِ إذَا كَانَ ظَاهِرَ الصِّدْقِ وَالْعَدَالَةِ. وَطَرْدُ هَذَا، وَنَظِيرُهُ قَبُولُ خَبَرِ الْمُخْبِرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ قَالَ أَوْ فَعَلَ، وَقَبُولُ خَبَرِ الْمُخْبِرِ عَمَّنْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِذَلِكَ، وَهَلُمَّ جَرًّا؛ فَهَذَا حَقٌّ لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ.

وَأَمَّا تَقْلِيدُ الرَّجُلِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ ظَنِّهِ فَلَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ الْعِلْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ ظَنُّهُ وَاجْتِهَادُهُ؛ فَتَقْلِيدُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ تَقْلِيدِنَا لَهُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ رُؤْيَتِهِ وَسَمَاعِهِ وَإِدْرَاكِهِ، فَأَيْنَ فِي هَذَا مَا يُوجِبُ عَلَيْنَا أَوْ يُسَوِّغُ لَنَا أَنْ نُفْتِيَ بِذَلِكَ أَوْ نَحْكُمَ بِهِ وَنُدِينَ اللَّهَ بِهِ، وَنَقُولُ: هَذَا هُوَ الْحَقُّ وَمَا خَالَفَهُ بَاطِلٌ، وَنَتْرُكُ لَهُ نُصُوصَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارَ الصَّحَابَةِ وَأَقْوَالَ مَنْ عَدَاهُ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ؟

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَقْلِيدُ الْأَعْمَى فِي الْقِبْلَةِ وَدُخُولِ الْوَقْتِ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يُقَلِّدَ غَيْرَهُ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَيُقَالُ: أَصْبَحْت أَصْبَحْت، وَكَذَلِكَ تَقْلِيدُ النَّاسِ لِلْمُؤَذِّنِ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ، وَتَقْلِيدُ مَنْ فِي الْمَطْمُورَةِ لِمَنْ يُعْلِمُهُ بِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ وَالْفِطْرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>