للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِيهَا سِوَى قَوْلِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ فَقَلَّدُوهُ، وَهَذَا فِعْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْوَاجِبُ؛ فَإِنَّ التَّقْلِيدَ إنَّمَا يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ، وَأَمَّا مَنْ عَدَلَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَعَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ إلَى التَّقْلِيدِ فَهُوَ كَمَنْ عَدَلَ إلَى الْمَيْتَةِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمُذَكَّى؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَقْبَلَ قَوْلُ الْغَيْرِ إلَّا بِدَلِيلٍ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَجَعَلْتُمْ أَنْتُمْ حَالَ الضَّرُورَةِ رَأْسَ أَمْوَالِكُمْ.

[الْفَرْقُ بَيْنَ حَالِ الْأَئِمَّةِ وَحَالِ الْمُقَلِّدِينَ]

الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ: قَوْلُكُمْ: " قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَأْيُ الصَّحَابَةِ لَنَا خَيْرٌ مِنْ رَأْيِنَا لِأَنْفُسِنَا وَنَحْنُ نَقُولُ وَنُصَدِّقُ: رَأْيُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَئِمَّةِ لَنَا خَيْرٌ مِنْ رَأْيِنَا لِأَنْفُسِنَا " جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّكُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِقَوْلِهِ، وَلَا تَرَوْنَ رَأْيَهُمْ لَكُمْ خَيْرًا مِنْ رَأْيِ الْأَئِمَّةِ لِأَنْفُسِهِمْ، بَلْ تَقُولُونَ: رَأْيُ الْأَئِمَّةِ لِأَنْفُسِهِمْ خَيْرٌ لَنَا مِنْ رَأْيِ الصَّحَابَةِ لَنَا، فَإِذَا جَاءَتْ الْفُتْيَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَسَادَاتِ الصَّحَابَةِ وَجَاءَتْ الْفُتْيَا عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ تَرَكْتُمْ مَا جَاءَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَأَخَذْتُمْ بِمَا أَفْتَى بِهِ الْأَئِمَّةُ، فَهَلَّا كَانَ رَأْيُ الصَّحَابَةِ لَكُمْ خَيْرًا مِنْ رَأْيِ الْأَئِمَّةِ لَكُمْ لَوْ نَصَحْتُمْ أَنْفُسَكُمْ.

الثَّانِي: أَنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ صِحَّةَ تَقْلِيدِ مَنْ سِوَى الصَّحَابَةِ؛ لِمَا خَصَّهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ وَالْفَضْلِ وَالْفِقْهِ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِمْ وَشَاهَدُوا الْوَحْيَ وَالتَّلَقِّي عَنْ الرَّسُولِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَنُزُولِ الْوَحْيِ بِلُغَتِهِمْ وَهِيَ غَضَّةٌ مَحْضَةٌ لَمْ تَشِبَّ، وَمُرَاجَعَتِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى يُجْلِيَهُ لَهُمْ؛ فَمَنْ لَهُ هَذِهِ الْمَزِيَّةُ بَعْدَهُمْ؟ وَمَنْ شَارَكَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ حَتَّى يُقَلَّدَ كَمَا يُقَلَّدُونَ فَضْلًا عَنْ وُجُوبِ تَقْلِيدِهِ وَسُقُوطِ تَقْلِيدِهِمْ أَوْ تَحْرِيمِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ غُلَاتُهُمْ؟ وَتَاللَّهِ إنَّ بَيْنَ عِلْمِ الصَّحَابَةِ وَعِلْمِ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ مِنْ الْفَضْلِ كَمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي الرِّسَالَةِ الْقَدِيمَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهُمْ وَذَكَرَ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ وَفَضْلِهِمْ: وَهُمْ فَوْقَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ وَاجْتِهَادٍ وَوَرَعٍ وَعَقْلٍ وَأَمْرٍ اسْتَدْرَكَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَآرَاؤُهُمْ لَنَا أَحْمَدُ وَأَوْلَى بِنَا مِنْ رَأْيِنَا.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى الصَّحَابَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَسَبَقَ لَهُمْ مِنْ الْفَضْلِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ مَا لَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَهُمْ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ» ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» .

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ بَعْدَهُ فَرَأَى قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاخْتَارَهُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>