للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَنْ عَدَاهُمْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ تُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِهِ؟ وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ قَبُولَ قَوْلِهِمْ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ وَظُهُورِ الْآيَاتِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِصِحَّةِ دَعْوَاهُمْ؛ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ فِي فِطَرِ عِبَادِهِ مِنْ الِانْقِيَادِ لِلْحُجَّةِ، وَقَبُولِ قَوْلِ صَاحِبِهَا، وَهَذَا أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ وَبَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ الِانْقِيَادِ لِلْحُجَّةِ وَتَعْظِيمِ صَاحِبِهَا، وَإِنْ خَالَفُوهُ عِنَادًا وَبَغْيًا فَلِفَوَاتِ أَغْرَاضِهِمْ بِالِانْقِيَادِ؛ وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ:

أَبِنْ وَجْهَ قَوْلِ الْحَقِّ فِي قَلْبِ سَامِعٍ ... وَدَعْهُ فَنُورُ الْحَقِّ يَسْرِي وَيُشْرِقُ

سَيُؤْنِسُهُ رُشْدًا وَيَنْسَى نِفَارَهُ ... كَمَا نَسِيَ التَّوْثِيقَ مَنْ هُوَ مُطْلِقُ

فَفِطْرَةُ اللَّهِ وَشَرْعُهُ مِنْ أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَى فِرْقَةِ التَّقْلِيدِ.

[تَفَاوُتُ الِاسْتِعْدَادِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّقْلِيدَ فِي كُلِّ حُكْمٍ]

الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ: قَوْلُكُمْ " إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَاوَتَ بَيْنَ قُوَى الْأَذْهَانِ كَمَا فَاوَتَ بَيْنَ قُوَى الْأَبْدَانِ، فَلَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ أَنْ يَفْرِضَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ، إلَى آخِرِهِ " فَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذَلِكَ، وَلَا نَدَّعِي أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الدِّينِ دِقِّهِ وَجُلِّهِ وَإِنَّمَا أَنْكَرْنَا مَا أَنْكَرَهُ الْأَئِمَّةُ وَمَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَا حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ الْمَذْمُومِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مِنْ نَصْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَجَعْلِ فَتَاوِيهِ بِمَنْزِلَةِ نُصُوصِ الشَّارِعِ، بَلْ تَقْدِيمِهَا عَلَيْهِ وَتَقْدِيمِ قَوْلِهِ عَلَى أَقْوَالِ مَنْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جَمِيعِ عُلَمَاءِ أُمَّتِهِ، وَالِاكْتِفَاءِ بِتَقْلِيدِهِ عَنْ تَلَقِّي الْأَحْكَامِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، وَأَنْ يَضُمَّ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَقُولُ إلَّا بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَهَذَا مَعَ تَضَمُّنِهِ لِلشَّهَادَةِ بِمَا لَا يَعْلَمُ الشَّاهِدُ، وَالْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، وَالْإِخْبَارِ عَمَّنْ خَالَفَهُ وَإِنْ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُصِيبٍ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَتْبُوعِي هُوَ الْمُصِيبُ.

أَوْ يَقُولُ: كِلَاهُمَا مُصِيبٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ تَعَارَضَتْ أَقْوَالُهُمَا، فَيَجْعَلُ أَدِلَّةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُتَعَارِضَةً مُتَنَاقِضَةً، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ يَحْكُمُ بِالشَّيْءِ وَضِدِّهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَدِينُهُ تَبَعٌ لِآرَاءِ الرِّجَالِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ، فَهُوَ إمَّا أَنْ يَسْلُكَ هَذَا الْمَسْلَكَ أَوْ يُخَطِّئَ مَنْ خَالَفَ مَتْبُوعَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ، وَهَذَا مِنْ بَرَكَةِ التَّقْلِيدِ عَلَيْهِ.

إذَا عَرَفْت هَذَا فَنَحْنُ إنَّمَا قُلْنَا وَنَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَتَّقُوهُ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ، وَأَصْلُ التَّقْوَى مَعْرِفَةُ مَا يُتَّقَى ثُمَّ الْعَمَلُ بِهِ؛ فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يَبْذُلَ جَهْدَهُ فِي مَعْرِفَةِ مَا يَتَّقِيهِ مِمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَنَهَاهُ عَنْهُ، ثُمَّ يَلْتَزِمَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>