للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ قِيلَ: قَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ وَاعْتِبَارِهِ وَإِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ بِهِ، فَمَا خَرَجْنَا عَنْ مُوجِبِ الْقُرْآنِ، وَلَا زِدْنَا عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ إلَّا بِمَا دَلَّنَا عَلَيْهِ الْقُرْآنُ.

قِيلَ: فَهَلَّا قُلْتُمْ مِثْلَ هَذَا سَوَاءٌ فِي السُّنَّةِ الزَّائِدَةِ عَلَى الْقُرْآنِ، وَكَانَ قَوْلُكُمْ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ أَسْعَدَ وَأَصْلَحَ مِنْ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ آرَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ وَعُرْضَةٌ لِلْخَطَأِ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ ضُمِنَتْ لَنَا الْعِصْمَةُ فِي أَقْوَالِهِ، وَفَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا اتِّبَاعَهُ وَطَاعَتَهُ.

فَإِنْ قِيلَ: الْقِيَاسُ بَيَانٌ لِمُرَادِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ النُّصُوصِ، وَأَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي الْمَذْكُورِ فِي نَظِيرِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ زَائِدًا عَلَى الْقُرْآنِ، بَلْ تَفْسِيرٌ لَهُ وَتَبْيِينٌ.

قِيلَ: فَهَلَّا قُلْتُمْ: إنَّ السُّنَّةَ بَيَانٌ لِمُرَادِ اللَّهِ مِنْ الْقُرْآنِ، تَفْصِيلًا لِمَا أَجْمَلَهُ، وَتَبْيِينًا لِمَا سَكَتَ عَنْهُ، وَتَفْسِيرًا لِمَا أَبْهَمَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَنَهَى عَنْ الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْعُدْوَانِ وَالْإِثْمِ، وَأَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ؛ فَكُلُّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فَإِنَّهَا تَفْصِيلٌ لِهَذَا الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَاَلَّذِي أَحَلَّ لَنَا هُوَ الَّذِي حَرَّمَ عَلَيْنَا.

وَهَذَا تَبْيِينٌ بِالْمِثَالِ التَّاسِعَ عَشَرَ: وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنْ يُعْدَلَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْعَطِيَّةِ فَقَالَ «اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ» . وَفِي الْحَدِيثِ: «إنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» فَسَمَّاهُ جَوْرًا، وَقَالَ «إنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ» وَقَالَ «أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» تَهْدِيدًا لَهُ، وَإِلَّا فَمَنْ الَّذِي يَطِيبُ قَلْبُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مَا حَكَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ جَوْرٌ وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ وَأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ تَقْوَى اللَّهِ وَأَنَّهُ خِلَافُ الْعَدْلِ؟ وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، وَقَامَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَأُسِّسَتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ؛ فَهُوَ أَشَدُّ مُوَافَقَةً لِلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ قِيَاسٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَهُوَ مُحْكَمُ الدَّلَالَةِ غَايَةَ الْإِحْكَامِ، فَرُدَّ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ «كُلُّ أَحَدٍ أَحَقُّ بِمَالِهِ مِنْ وَلَدِهِ، وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» فَكَوْنُهُ أَحَقُّ بِهِ يَقْتَضِي جَوَازَ تَصَرُّفِهِ فِيهِ كَمَا يَشَاءُ وَبِقِيَاسٍ مُتَشَابِهٍ عَلَى إعْطَاءِ الْأَجَانِبِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ هَذَا الْمُتَشَابِهَ مِنْ الْعُمُومِ، وَالْقِيَاسُ لَا يُقَاوِمُ هَذَا الْمُحْكَمَ الْمُبَيَّنَ غَايَةَ الْبَيَانِ.

[رَدُّ الْمُحْكَمِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُصَرَّاةِ]

الْمِثَالُ الْعِشْرُونَ: رَدُّ الْمُحْكَمِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُصَرَّاةِ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْقِيَاسِ، وَزَعْمُهُمْ أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ يُخَالِفُ الْأُصُولَ فَلَا يُقْبَلُ؛ فَيُقَالُ: الْأُصُولُ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعُ أُمَّتِهِ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الْمُوَافِقُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: الْأَصْلُ يُخَالِفُ نَفْسَهُ؟ هَذَا مِنْ أَبْطَلْ الْبَاطِلِ، وَالْأُصُولُ فِي الْحَقِيقَةِ اثْنَانِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: كَلَامُ اللَّهِ، وَكَلَامُ رَسُولِهِ، وَمَا عَدَاهُمَا فَمَرْدُودٌ إلَيْهِمَا؛ فَالسُّنَّةُ أَصْلٌ قَائِمٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>