للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَصْلٌ [فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ وَمَنْزِلَتُهُمْ]

الْقِسْمُ الثَّانِي: فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ دَارَتْ الْفُتْيَا عَلَى أَقْوَالِهِمْ بَيْنَ الْأَنَامِ، الَّذِينَ خُصُّوا بِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ، وَعَنَوْا بِضَبْطِ قَوَاعِدِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ؛ فَهُمْ فِي الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ، بِهِمْ يَهْتَدِي الْحَيْرَانُ فِي الظَّلْمَاءِ، وَحَاجَةُ النَّاسِ إلَيْهِمْ أَعْظَمُ مِنْ حَاجَتِهِمْ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَطَاعَتُهُمْ أَفْرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ طَاعَةِ الْأُمَّهَاتِ وَالْآبَاءِ بِنَصِّ الْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: ٥٩] قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: أُولُو الْأَمْرِ هُمْ الْعُلَمَاءُ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: هُمْ الْأُمَرَاءُ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ [طَاعَةُ الْأُمَرَاءِ تَابِعَةٌ لِطَاعَةِ الْعُلَمَاءِ]

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْأُمَرَاءَ إنَّمَا يُطَاعُونَ إذَا أَمَرُوا بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ؛ فَطَاعَتُهُمْ تَبَعٌ لِطَاعَةِ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّ الطَّاعَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْمَعْرُوفِ وَمَا أَوْجَبَهُ الْعِلْمُ، فَكَمَا أَنَّ طَاعَةَ الْعُلَمَاءِ تَبَعٌ لِطَاعَةِ الرَّسُولِ فَطَاعَةُ الْأُمَرَاءِ تَبَعٌ لِطَاعَةِ الْعُلَمَاءِ، وَلَمَّا كَانَ قِيَامُ الْإِسْلَامِ بِطَائِفَتَيْ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ، وَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ لَهُمْ تَبَعًا، كَانَ صَلَاحُ الْعَالَمِ بِصَلَاحِ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَفَسَادُهُ بِفَسَادِهِمَا، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ: صِنْفَانِ مِنْ النَّاسِ إذَا صَلَحَا صَلَحَ النَّاسُ، وَإِذَا فَسَدَا فَسَدَ النَّاسُ، قِيلَ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: الْمُلُوكُ، وَالْعُلَمَاءُ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ:

رَأَيْت الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ ... وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إدْمَانُهَا

وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ ... وَخَيْرٌ لِنَفْسِك عِصْيَانُهَا

وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إلَّا الْمُلُوكُ ... وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا

[فَصْلٌ مَا يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُوَقِّعُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ]

ِ] وَلَمَّا كَانَ التَّبْلِيغُ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يَعْتَمِدُ الْعِلْمَ بِمَا يُبَلَّغُ، وَالصِّدْقَ فِيهِ، لَمْ تَصْلُحْ مَرْتَبَةُ التَّبْلِيغِ بِالرِّوَايَةِ وَالْفُتْيَا إلَّا لِمَنْ اتَّصَفَ بِالْعِلْمِ وَالصِّدْقِ؛ فَيَكُونُ عَالِمًا بِمَا يُبَلِّغُ صَادِقًا

<<  <  ج: ص:  >  >>