للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ إقْرَارًا لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ، وَمِنْ هَهُنَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ كَالْقَفَّالِ وَغَيْرِهِ: إذَا قَالَ " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ " لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَاهُ؛ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ وَالْكِنَايَةُ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ فِي غَيْرِ الِالْتِزَامَاتِ، وَلِهَذَا لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ.

[مَذْهَبُ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ]

وَأَمَّا أَصْحَابُ أَحْمَدَ فَقَدْ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ: كُنْت عِنْدَ أَبِي الْقَاسِمِ الْخِرَقِيِّ وَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ أَيْمَانِ الْبَيْعَةِ، فَقَالَ: لَسْت أُفْتِي فِيهَا بِشَيْءٍ، وَلَا رَأَيْت أَحَدًا مِنْ شُيُوخِنَا يُفْتِي فِيهَا بِشَيْءٍ، قَالَ: وَكَانَ أَبِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْنِي أَبَا عَلِيٍّ - يَهَابُ الْكَلَامَ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: إلَّا أَنْ يَلْتَزِمَ الْحَالِفُ بِهَا جَمِيعَ مَا فِيهَا مِنْ الْأَيْمَانِ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: عَرَفَهَا أَمْ لَمْ يَعْرِفْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ بِالْتِزَامِهِ لِمُوجِبِهَا صَارَ نَاوِيًا لَهُ مَعَ التَّلَفُّظِ، وَذَلِكَ مُقْتَضَى اللُّزُومِ، وَمَتَى وَجَدَ سَبَبَ اللُّزُومِ وَالْوُجُوبِ ثَبَتَ مُوجِبُهُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَثُلُثُ مَالِي صَدَقَةٌ، أَوْ أَوْصَى بِهِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ، أَوْ قَالَ: أَنَا مُقِرٌّ بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ، أَوْ قَالَ: مَا أَعْطَيْت فُلَانًا فَأَنَا ضَامِنٌ لَهُ، أَوْ مَالِكٌ عَلَيْهِ فَأَنَا ضَامِنُهُ، صَحَّ وَلَزِمَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ، أَوْ قَالَ " ضَمَانُ عُهْدَةِ هَذَا الْمَبِيعِ عَلَيَّ " صَحَّ وَلَزِمَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ.

وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَغَيْرُهُ: إنْ لَمْ يَعْرِفْهَا لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَرِيحَةٍ فِي الْقَسَمِ، وَالْكِنَايَةُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مُقْتَضَاهَا إلَّا بِالنِّيَّةِ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ شَيْئًا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَنْوِيَهُ، قَالُوا: وَإِنْ عَرَفَهَا وَلَمْ يَنْوِ عَقْدَ الْيَمِينِ بِمَا فِيهَا لَمْ تَصِحَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا كِنَايَةٌ فَلَا يَلْزَمُ حُكْمُهَا إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَإِنْ عَرَفَهَا وَنَوَى الْيَمِينَ بِمَا فِيهَا صَحَّ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِهِمَا تَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ، دُونَ غَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ.

وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: تَنْعَقِدُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَصَدَقَةِ الْمَالِ دُونَ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ فِيهَا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ حُرْمَةِ الِاسْمِ الْمُعَظَّمِ الَّذِي تَعْظِيمُهُ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِيمَا عَدَاهُ مِنْ الْأَيْمَانِ.

فَصْلٌ

[مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ]

وَأَمَّا أَصْحَابُ مَالِكٍ فَلَيْسَ عَنْ مَالِكٍ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ فِيهَا قَوْلٌ؛ وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: أَجْمَعَ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ فِيهَا بِالطَّلَاقِ فِي جَمِيعِ نِسَائِهِ وَالْعِتْقِ فِي جَمِيعِ عَبِيدِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَقِيقٌ فَعَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ،

<<  <  ج: ص:  >  >>