للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَاصِدِ وَالْبِلَادِ، فَمَنْ حَلَفَ بِهَا قَاصِدًا لِلطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ لَزِمَهُ مَا أَلْزَمَهُ نَفْسَهُ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ مُقْتَضَى ذَلِكَ وَلَمْ يَقْصِدْهُ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ الْعُرْفُ الْغَالِبُ الْجَارِي لَزِمَهُ فِيهَا كَفَّارَةُ ثَلَاثَةِ أَيْمَانٍ بِاَللَّهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ شُيُوخِنَا الَّذِينَ حَمَلْنَا عَنْهُمْ، وَمِنْ شُيُوخِ عَصْرِنَا مَنْ كَانَ يُفْتِي بِهَا بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْعُرْفُ الْمُسْتَمِرُّ الْجَارِي الَّذِي يَحْصُلُ عِلْمُهُ وَالْقَصْدُ إلَيْهِ عِنْدَ كُلِّ حَالِفٍ بِهَا، ثُمَّ ذُكِرَ اخْتِلَافُ الْمَغَارِبَةِ: هَلْ يَلْزَمُ فِيهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ أَوْ الْوَاحِدَةُ؟ ثُمَّ قَالَ: وَالْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِيهَا الرُّجُوعُ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَمَا هُوَ الْمَعْلُومُ عِنْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ، فَإِذَا ثَبَتَ فِيهَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَقَصَدُوهُ وَعَرَفُوهُ وَاشْتُهِرَ بَيْنَهُمْ وَجَبَ أَنْ يَحْمِلُوهُ عَلَيْهِ، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ يُرْجَعُ إلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْيَمِينُ: بِاَللَّهِ؛ إذْ لَا يُسَمَّى غَيْرُ ذَلِكَ يَمِينًا، فَيَلْزَمُ الْحَالِفَ بِهَا كَفَّارَةُ ثَلَاثَةِ أَيْمَانٍ، قَالَ: وَعَلَى هَذَا كَانَ يَقُولُ أَهْلُ التَّحْقِيقِ وَالْإِنْصَافِ مِنْ شُيُوخِنَا.

قُلْت: وَلِإِجْزَاءِ الْكَفَّارَةِ الْوَاحِدَةِ فِيهَا مَدْرَكٌ آخَرُ أَفْقَهُ مِنْ هَذَا، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ فَتَاوَى الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - صَرِيحًا فِي حَدِيثِ لَيْلَى بِنْتِ الْعَجْمَاءِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهَذِهِ الِالْتِزَامَاتُ الْخَارِجَةُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ إنَّمَا فِيهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ بِالنَّصِّ وَالْقِيَاسِ وَاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَمُوجِبُهَا كُلُّهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ وَلَوْ تَعَدَّدَ الْمَحْلُوفُ بِهِ، وَصَارَ هَذَا نَظِيرَ مَا لَوْ حَلَفَ بِكُلِّ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ لِاتِّحَادِ الْمُوجِبِ وَإِنْ تَعَدَّدَ السَّبَبُ، وَنَظِيرُهُ مَا لَوْ حَلَفَ بِأَسْمَاءِ الرَّبِّ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا حَلَفَ بِأَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ الْأَيْمَانِ كُلِّهَا أَوْ الْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ أَوْ أَيْمَانِ الْبَيْعَةِ أَوْ بِمَا يَحْلِفُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِأَعْظَمَ مِمَّا لَوْ حَلَفَ بِكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ أَوْ بِكُلِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، فَإِذَا أَجْزَأَ فِي هَذِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ مَعَ حُرْمَةِ هَذِهِ الْيَمِينِ وَتَأَكُّدِهَا فَلَأَنْ تُجْزِئَ الْكَفَّارَةُ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَلَا يَلِيقُ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ الْحَكِيمَةِ الَّتِي لَمْ يَطْرُقْ الْعَالَمَ شَرِيعَةٌ أَكْمَلُ مِنْهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَفْتَى بِهِ أَفْقَهُ الْأُمَّةِ وَأَعْلَمُهُمْ بِمَقَاصِدِ الرَّسُولِ وَدِينِهِ وَهُمْ الصَّحَابَةُ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بَعْدَهُمْ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يُلْزِمُ الْحَالِفَ بِمَا الْتَزَمَهُ مِنْ جَمِيعِ الِالْتِزَامَاتِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَلْزَمُهُ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَلْبَتَّةَ لِأَنَّهَا أَيْمَانٌ غَيْرُ شَرْعِيَّةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْزِمُهُ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَيُخَيِّرُهُ فِي الْبَاقِي بَيْنَ التَّكْفِيرِ وَالِالْتِزَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَتِّمُ عَلَيْهِ التَّكْفِيرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْزِمُهُ بِالطَّلَاقِ وَحْدَهُ دُونَ مَا عَدَاهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْزِمُهُ بِشَرْطِ كَوْنِ الصِّيغَةِ شَرْطًا فَإِنْ كَانَتْ صِيغَةَ الْتِزَامٍ فَيَمِينٌ كَقَوْلِهِ " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي " لَمْ يَلْزَمْهُ بِذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَقَّفُ فِي ذَلِكَ وَلَا يُفْتِي فِيهِ بِشَيْءٍ؛ فَالْأَوَّلُ قَوْلُ مَالِكٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>