للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْمُكْرَهِ وَالْمُخْطِئِ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ أَوْ الْغَضَبِ أَوْ الْمَرَضِ وَنَحْوَهُمْ، وَلَمْ يُكَفِّرْ مَنْ قَالَ مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ بِرَاحِلَتِهِ بَعْدَ يَأْسِهِ مِنْهَا: اللَّهُمَّ أَنْتِ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّك " فَكَيْفَ يَعْتَبِرُ الْأَلْفَاظَ الَّتِي يَقْطَعُ بِأَنَّ مُرَادَ قَائِلِهَا خِلَافُهَا؟ وَلِهَذَا الْمَعْنَى رَدَّ شَهَادَةَ الْمُنَافِقِينَ وَوَصَفَهُمْ بِالْخِدَاعِ وَالْكَذِبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَذَمَّهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَنَّ بَوَاطِنَهُمْ تُخَالِفُ ظَوَاهِرَهُمْ، وَذَمَّ تَعَالَى مَنْ يَقُولُ مَا لَا يَفْعَلُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْمَقْتِ عِنْدَهُ، وَلَعَنَ الْيَهُودَ إذْ تَوَسَّلُوا بِصُورَةِ عَقْدِ الْبَيْعِ عَلَى مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ إلَى أَكْلِ ثَمَنِهِ، وَجَعَلَ أَكْلَ ثَمَنِهِ لَمَّا كَانَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِمَنْزِلَةِ أَكْلِهِ فِي نَفْسِهِ.

وَقَدْ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخَمْرِ عَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا» ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَاصِرَ إنَّمَا عَصَرَ عِنَبًا، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ نِيَّتُهُ إنَّمَا هِيَ تَحْصِيلُ الْخَمْرِ لَمْ يَنْفَعْهُ ظَاهِرُ عَصْرِهِ، وَلَمْ يَعْصِمْهُ مِنْ اللَّعْنَةِ لِبَاطِنِ قَصْدِهِ وَمُرَادِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُقُودِ وَالْأَفْعَالِ بِحَقَائِقِهَا وَمَقَاصِدِهَا دُونَ ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِهَا وَأَفْعَالِهَا. وَمَنْ لَمْ يُرَاعِ الْقُصُودَ فِي الْعُقُودِ وَجَرَى مَعَ ظَوَاهِرِهَا يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَلْعَنَ الْعَاصِرَ، وَأَنْ يُجَوِّزَ لَهُ عَصْرَ الْعِنَبِ لِكُلِّ أَحَدٍ وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ قَصْدَهُ الْخَمْرُ، وَأَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِالْأُجْرَةِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِ الْقَصْدِ فِي الْعَقْدِ عِنْدَهُ، وَلَقَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ، وَجَوَّزُوا لَهُ الْعَصْرَ، وَقَضَوْا لَهُ بِالْأُجْرَةِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي أَثَرٍ مَرْفُوعٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ «مَنْ حَبَسَ الْعِنَبَ أَيَّامَ الْقِطَافِ حَتَّى يَبِيعَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا فَقَدْ تَقَحَّمَ النَّارَ عَلَى بَصِيرَةٍ» ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ بَطَّةَ.

وَمَنْ لَمْ يُرَاعِ الْقَصْدَ فِي الْعَقْدِ لَمْ يَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا، وَقَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ هَدْمُهَا أَنَّ الْمَقَاصِدَ وَالِاعْتِقَادَاتِ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَالْعِبَارَاتِ كَمَا هِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّقَرُّبَاتِ وَالْعِبَادَاتِ؛ فَالْقَصْدُ وَالنِّيَّةُ وَالِاعْتِقَادُ يَجْعَلُ الشَّيْءَ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا، وَصَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا، وَطَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً، كَمَا أَنَّ الْقَصْدَ فِي الْعِبَادَةِ يَجْعَلُهَا وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً أَوْ مُحَرَّمَةً أَوْ صَحِيحَةً أَوْ فَاسِدَةً. وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ تَفُوتُ الْحَصْرَ، فَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى فِي حَقِّ الْأَزْوَاجِ إذَا طَلَّقُوا أَزْوَاجَهُمْ طَلَاقًا رَجْعِيًّا: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: ٢٢٨] وَقَوْلُهُ: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: ٢٣١] وَذَلِكَ نَصٌّ فِي أَنَّ الرَّجْعَةَ إنَّمَا مَلَّكَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ قَصَدَ الصَّلَاحَ دُونَ مَنْ قَصَدَ الضِّرَارَ. وَقَوْلُهُ فِي الْخُلْعِ: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: ٢٢٩] وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: ٢٣٠] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْخُلْعَ الْمَأْذُونَ فِيهِ وَالنِّكَاحَ الْمَأْذُونَ فِيهِ إنَّمَا يُبَاحُ إذَا ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: ١٢] فَإِنَّمَا قَدَّمَ اللَّهُ الْوَصِيَّةَ عَلَى الْمِيرَاثِ إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهَا الْمُوصِي الضِّرَارَ؛ فَإِنْ قَصَدَهُ فَلِلْوَرَثَةِ إبْطَالُهَا وَعَدَمُ تَنْفِيذِهَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:

<<  <  ج: ص:  >  >>