للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَعْنَى الْبَيِّنَةِ]

وَقَوْلُهُ: " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ " الْبَيِّنَةُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ فَهِيَ أَعَمُّ مِنْ الْبَيِّنَةِ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، حَيْثُ خَصُّوهَا بِالشَّاهِدَيْنِ أَوْ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَلَا حَجْرَ فِي الِاصْطِلَاحِ مَا لَمْ يَتَضَمَّنْ حَمْلَ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَيْهِ فَيَقَعُ بِذَلِكَ الْغَلَطُ فِي فَهْمِ النُّصُوصِ وَحَمْلِهَا عَلَى غَيْرِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهَا وَقَدْ حَصَلَ بِذَلِكَ لِلْمُتَأَخِّرِينَ أَغْلَاطٌ شَدِيدَةٌ فِي فَهْمِ النُّصُوصِ، وَنَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ مِثَالًا وَاحِدًا، وَهُوَ مَا نَحْنُ فِيهِ لَفْظُ الْبَيِّنَةِ فَإِنَّهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: ٢٥] وَقَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ - بِالْبَيِّنَاتِ} [النحل: ٤٣ - ٤٤] وَقَالَ: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: ٤] وَقَالَ: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام: ٥٧] وَقَالَ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} [هود: ١٧] وَقَالَ: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ} [فاطر: ٤٠] وَقَالَ {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} [طه: ١٣٣] وَهَذَا كَثِيرٌ، لَمْ يَخْتَصَّ لَفْظُ الْبَيِّنَةِ بِالشَّاهِدَيْنِ، بَلْ وَلَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْكِتَابِ فِيهِمَا أَلْبَتَّةَ.

إذَا عُرِفَ هَذَا فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِلْمُدَّعِي أَلَك بَيِّنَةٌ» وَقَوْلُ عُمَرَ " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي " وَإِنْ كَانَ هَذَا قَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا الْمُرَادُ بِهِ أَلِك مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ مِنْ شُهُودٍ أَوْ دَلَالَةٍ، فَإِنَّ الشَّارِعَ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ يَقْصِدُ ظُهُورَ الْحَقِّ بِمَا يُمْكِنُ ظُهُورُهُ بِهِ مِنْ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي هِيَ أَدِلَّةٌ عَلَيْهِ وَشَوَاهِدُ لَهُ، وَلَا يَرُدُّ حَقًّا قَدْ ظَهَرَ بِدَلِيلِهِ أَبَدًا فَيُضَيِّعُ حُقُوقَ اللَّهِ وَعِبَادِهِ وَيُعَطِّلُهَا، وَلَا يَقِفْ ظُهُورُ الْحَقِّ عَلَى أَمْرٍ مُعَيَّنٍ لَا فَائِدَةَ فِي تَخْصِيصِهِ بِهِ مَعَ مُسَاوَاةِ غَيْرِهِ فِي ظُهُورِ الْحَقِّ أَوْ رُجْحَانِهِ عَلَيْهِ تَرْجِيحًا لَا يُمْكِنُ جَحْدُهُ وَدَفْعُهُ، كَتَرْجِيحِ شَاهِدِ الْحَالِ عَلَى مُجَرَّدِ الْيَدِ فِي صُورَةٍ مَنْ عَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ وَبِيَدِهِ عِمَامَةٌ وَآخَرُ خَلْفَهُ مَكْشُوفُ الرَّأْسِ يَعْدُو أَثَرَهُ، وَلَا عَادَةَ لَهُ بِكَشْفِ رَأْسِهِ، فَبَيِّنَةُ الْحَالِ وَدَلَالَتُهُ هُنَا تُفِيدُ مِنْ ظُهُورِ صِدْقِ الْمُدَّعِي أَضْعَافَ مَا يُفِيدُ مُجَرَّدَ الْيَدِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ؛ فَالشَّارِعُ لَا يُهْمِلُ مِثْلَ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ وَالدَّلَالَةَ، وَيُضَيِّعُ حَقًّا يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ ظُهُورَهُ وَحُجَّتَهُ، بَلْ لَمَّا ظَنَّ هَذَا مَنْ ظَنَّهُ ضَيَّعُوا طَرِيقَ الْحُكْمِ، فَضَاعَ كَثِيرٌ مِنْ الْحُقُوقِ لِتَوَقُّفِ ثُبُوتِهَا عِنْدَهُمْ عَلَى طَرِيقٍ مُعَيَّنٍ، وَصَارَ الظَّالِمُ الْفَاجِرُ مُمَكَّنًا مِنْ ظُلْمِهِ وَفُجُورِهِ، فَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، وَيَقُولُ لَا يَقُومُ عَلَيَّ بِذَلِكَ شَاهِدَانِ اثْنَانِ، فَضَاعَتْ حُقُوقٌ كَثِيرَةٌ لِلَّهِ وَلِعِبَادِهِ، وَحِينَئِذٍ أَخْرَجَ اللَّهُ أَمْرَ الْحُكْمِ الْعِلْمِيِّ عَنْ أَيْدِيهِمْ، وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْإِمَارَةِ وَالسِّيَاسَةِ مَا يَحْفَظُ بِهِ الْحَقَّ تَارَةً وَيَضِيعُ بِهِ أُخْرَى، وَيَحْصُلُ بِهِ الْعُدْوَانُ تَارَةً وَالْعَدْلُ أُخْرَى،

<<  <  ج: ص:  >  >>