للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَبْطَلَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ قَصْدَهُ، فَإِنْ كَانَ هَازِلًا أَوْ لَاعِبًا لَمْ يَقْصِدْ الْمَعْنَى أَلْزَمَهُ الشَّارِعُ الْمَعْنَى كَمَنْ هَزَلَ بِالْكُفْرِ وَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ، بَلْ لَوْ تَكَلَّمَ الْكَافِرُ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ هَازِلًا أُلْزِمَ بِهِ وَجَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامًا ظَاهِرًا، وَإِنْ تَكَلَّمَ بِهَا مُخَادِعًا مَاكِرًا مُحْتَالًا مُظْهِرًا خِلَافَ مَا أَبْطَنَ لَمْ يُعْطِهِ الشَّارِعُ مَقْصُودَهُ كَالْمُحَلَّلِ وَالْمُرَابِي بِعَقْدِ الْعَيِّنَةِ وَكُلِّ مَنْ احْتَالَ عَلَى إسْقَاطِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ بِعَقْدٍ أَوْ قَوْلٍ أَظْهَرَهُ وَأَبْطَنَ الْأَمْرَ الْبَاطِلَ. وَبِهَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ الْإِلْزَامِ بِنِكَاحِ الْهَازِلِ وَطَلَاقِهِ وَرَجْعَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ حَقَائِقَ هَذِهِ الصِّيَغِ وَمَعَانِيَهَا.

[تَقْسِيمٌ جَامِعٌ يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ صِيَغِ الْعُقُودِ]

وَنَحْنُ نَذْكُرُ تَقْسِيمًا جَامِعًا نَافِعًا فِي هَذَا الْبَابِ نُبَيِّنُ بِهِ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فَنَقُولُ: الْمُتَكَلِّمُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لِلتَّكَلُّمِ بِهَا أَوْ لَا يَكُونَ قَاصِدًا؛ فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ التَّكَلُّمَ بِهَا كَالْمُكْرَهِ وَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ فَالصَّوَابُ أَنَّ أَقْوَالَ هَؤُلَاءِ كُلَّهَا هَدَرٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمِيزَانُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ، وَإِنْ كَانَ قَاصِدًا التَّكَلُّمَ بِهَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِغَايَاتِهَا مُتَصَوِّرًا لَهَا أَوْ لَا يَدْرِي مَعَانِيَهَا أَلْبَتَّةَ بَلْ هِيَ عِنْدَهُ كَأَصْوَاتٍ يَنْعَقُ بِهَا؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَعْنَاهَا وَلَا مُتَصَوِّرًا لَهُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ أَحْكَامُهَا أَيْضًا، وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُتَصَوِّرًا لِمَعَانِيهَا عَالِمًا بِمَدْلُولِهَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لَهَا أَوْ لَا؛ فَإِنْ كَانَ قَاصِدًا لَهَا تَرَتَّبَتْ أَحْكَامُهَا فِي حَقِّهِ وَلَزِمَتْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا لَهَا فَإِمَّا أَنْ يَقْصِدَ خِلَافَهَا أَوْ لَا يَقْصِدَ لَا مَعْنَاهَا وَلَا غَيْرَ مَعْنَاهَا؛ فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ غَيْرَ التَّكَلُّمِ بِهَا فَهُوَ الْهَازِلُ وَنَذْكُرُ حُكْمَهُ، وَإِنْ قَصَدَ غَيْرَ مَعْنَاهَا فَإِمَّا أَنْ يَقْصِدَ مَا يَجُوزُ لَهُ قَصْدُهُ أَوْ لَا؛ فَإِنْ قَصَدَ مَا يَجُوزُ لَهُ قَصْدُهُ نَحْوَ أَنْ يَقْصِدَ بِقَوْلِهِ " أَنْتِ طَالِقٌ " مِنْ زَوْجٍ كَانَ قَبْلِي، أَوْ يَقْصِدَ بِقَوْلِهِ " أَمَتِي - أَوْ عَبْدِي حُرٌّ " أَنَّهُ عَفِيفٌ عَنْ الْفَاحِشَةِ، أَوْ يَقْصِدَ بِقَوْلِهِ " امْرَأَتِي عِنْدِي مِثْلُ أُمِّي " فِي الْكَرَامَةِ وَالْمَنْزِلَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَمْ تَلْزَمْهُ أَحْكَامُ هَذِهِ الصِّيَغِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَأَمَّا فِي الْحُكْمِ فَإِنْ اقْتَرَنَ بِكَلَامِهِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ وَالْقَرِينَةَ بَيِّنَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِكَلَامِهِ قَرِينَةٌ أَصْلًا وَادَّعَى ذَلِكَ دَعْوَى مُجَرَّدَةً لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ، وَإِنْ قَصَدَ بِهَا مَا لَا يَجُوزُ قَصْدُهُ، كَالتَّكَلُّمِ بِنَكَحْتُ وَتَزَوَّجْت بِقَصْدِ التَّحْلِيلِ، وَبِعْت وَاشْتَرَيْت بِقَصْدِ الرِّبَا، وَبِخَالَعْتهَا بِقَصْدِ الْحِيلَةِ عَلَى فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَبِمَلَكْتُ بِقَصْدِ الْحِيلَةِ عَلَى إسْقَاطِ الزَّكَاةِ أَوْ الشُّفْعَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَهَذَا لَا يَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُهُ الَّذِي قَصَدَهُ وَجَعَلَ ظَاهِرَ اللَّفْظِ وَالْفِعْلِ وَسِيلَةً إلَيْهِ؛ فَإِنَّ فِي تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ تَنْفِيذًا لِلْمُحَرَّمِ، وَإِسْقَاطًا لِلْوَاجِبِ، وَإِعَانَةً عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَمُنَاقَضَةً لِدِينِهِ وَشَرْعِهِ، فَإِعَانَتُهُ عَلَى ذَلِكَ إعَانَةٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ إعَانَتِهِ عَلَى ذَلِكَ بِالطَّرِيقِ الَّتِي

<<  <  ج: ص:  >  >>