للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَى تِلْكَ الْأَسْبَابِ كَمَا رَتَّبَ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ بِالشَّهَادَتَيْنِ حُكْمَهُ وَأَطْلَعَ رَسُولَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَحْوَالِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَأَنَّهُمْ لَمْ يُطَابِقْ قَوْلُهُمْ اعْتِقَادَهُمْ.

وَهَذَا كَمَا أَجْرَى حُكْمَهُ عَلَى الْمُتَلَاعِنَيْنِ ظَاهِرًا ثُمَّ أَطْلَعَ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى حَالِ الْمَرْأَةِ بِشَبَهِ الْوَلَدِ لِمَنْ رُمِيَتْ بِهِ، وَكَمَا قَالَ: «إنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ» .

وَقَدْ يُطْلِعُهُ اللَّهُ عَلَى حَالِ آخِذِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ، وَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ إنْفَاذِ الْحُكْمِ. وَأَمَّا الَّذِي قَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ " فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَذْفِ لَا صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً، وَإِنَّمَا أَخْبَرَهُ بِالْوَاقِعِ مُسْتَفْتِيًا عَنْ حُكْمِ هَذَا الْوَلَدِ: أَيَسْتَلْحِقُهُ مَعَ مُخَالَفَةِ لَوْنِهِ لِلَوْنِهِ أَمْ يَنْفِيه فَأَفْتَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَرَّبَ لَهُ الْحُكْمَ بِالشَّبَهِ الَّذِي ذَكَرَهُ؛ لِيَكُونَ أَذْعَنَ لِقَبُولِهِ، وَانْشِرَاحِ الصَّدْرِ لَهُ، وَلَا يَقْبَلُهُ عَلَى إغْمَاضٍ.

فَأَيْنَ فِي هَذَا مَا يُبْطِلُ حَدَّ الْقَذْفِ بِقَوْلِ مَنْ يُشَاتِمُ غَيْرَهُ: أَمَّا أَنَا فَلَسْت بِزَانٍ، وَلَيْسَتْ أُمِّي بِزَانِيَةٍ. وَنَحْوِ هَذَا مِنْ التَّعْرِيضِ الَّذِي هُوَ أَوْجَعُ وَأَنْكَى مِنْ التَّصْرِيحِ، وَأَبْلَغُ فِي الْأَذَى، وَظُهُورُهُ عِنْدَ كُلِّ سَامِعٍ بِمَنْزِلَةِ ظُهُورِ الصَّرِيحِ، فَهَذَا لَوْنٌ وَذَلِكَ لَوْنٌ، وَقَدْ حَدَّ عُمَرُ بِالتَّعْرِيضِ فِي الْقَذْفِ، وَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - " إنَّهُ اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فَخَالَفَهُ بَعْضُهُمْ " فَإِنَّهُ يُرِيدُ مَا رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الرِّجَالِ عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ رَجُلَيْنِ اسْتَبَّا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: وَاَللَّهِ مَا أَنَا بِزَانٍ وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ، فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَقَالَ قَائِلٌ: مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: قَدْ كَانَ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ مَدْحٌ غَيْرُ هَذَا، نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ الْحَدَّ، فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ ثَمَانِينَ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَائِلَ الْأَوَّلَ خَالَفَ عُمَرُ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ إنَّهُ قَدْ كَانَ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ مَدْحٌ غَيْرُ هَذَا فُهِمَ أَنَّهُ أَرَادَ الْقَذْفَ فَسَكَتَ، وَهَذَا إلَى الْمُوَافَقَةِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْمُخَالَفَةِ.

وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ مِنْ وُجُوهٍ أَنَّهُ حَدَّ فِي التَّعْرِيضِ، فَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَحُدُّ فِي التَّعْرِيضِ بِالْفَاحِشَةِ، وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ صَفْوَانَ وَأَيُّوبَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ حَدَّ فِي التَّعْرِيضِ.

وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ أَنَّ عُثْمَانَ كَانَ يَحُدُّ فِي التَّعْرِيضِ وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَرَى الْحَدَّ فِي التَّعْرِيضِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَهُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ، كَمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ وَالْوَقْفُ وَالظِّهَارُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ، وَاللَّفْظُ إنَّمَا وُضِعَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى؛ فَإِذَا ظَهَرَ الْمَعْنَى غَايَةَ الظُّهُورِ لَمْ يَكُنْ فِي تَغْيِيرِ اللَّفْظِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: " مَنْ حَكَمَ عَلَى النَّاسِ بِخِلَافِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ خِلَافِ التَّنْزِيلِ وَالسُّنَّةِ " فَإِنَّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إلَى قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ، وَحَقْنِ دَمِهِ بِإِسْلَامِهِ وَقَبُولِ تَوْبَةِ الْمُرْتَدِّ وَإِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>