للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السِّلْعَةِ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُمَا الرِّبَا، وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ لَمْ يَشْرَعْهُ إلَّا لِرَاغِبٍ فِي الْمَرْأَةِ، لَمْ يَشْرَعْهُ لِلْمُحَلِّلِ، وَكَذَلِكَ الْخُلْعُ لَمْ يَشْرَعْهُ إلَّا لِلْمُفْتَدِيَةِ نَفْسَهَا مِنْ الزَّوْجِ تَتَخَلَّصُ مِنْهُ مِنْ سُوءِ الْعِشْرَةِ، وَلَمْ يَشْرَعْهُ لِلتَّحَيُّلِ عَلَى الْحِنْثِ قَطُّ.

وَكَذَلِكَ التَّمْلِيكُ لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَّا لِمَنْ قَصَدَ نَفْعَ الْغَيْرِ وَالْإِحْسَانَ إلَيْهِ بِتَمْلِيكِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُحْتَاجًا أَوْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ، وَلَمْ يَشْرَعْهُ لِإِسْقَاطِ فَرْضٍ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ غَيْرِهِمَا قَطُّ، وَكَذَلِكَ الْمَعَارِيض لَمْ يَشْرَعْهَا إلَّا لِمُحْتَاجٍ إلَيْهَا أَوْ لِمَنْ لَا يُسْقِطُ بِهَا حَقًّا وَلَا يَضُرُّ بِهَا أَحَدًا، وَلَمْ يَشْرَعْهَا إذَا تَضَمَّنَتْ إسْقَاطَ حَقٍّ أَوْ إضْرَارًا لِغَيْرِ مُسْتَحِقٍّ.

[مَتَى تُبَاحُ الْمَعَارِيضُ] ؟ فَثَبَتَ أَنَّ التَّعْرِيضَ الْمُبَاحَ لَيْسَ مِنْ الْمُخَادَعَةِ لِلَّهِ فِي شَيْءٍ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ مُخَادَعَةٌ لِمَخْلُوقٍ أَبَاحَ الشَّارِعُ مُخَادَعَتَهُ لِظُلْمِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ مُخَادِعَةِ الظَّالِمِ الْمُبْطِلِ جَوَازُ مُخَادَعَةِ الْمُحِقِّ؛ فَمَا كَانَ مِنْ التَّعْرِيضِ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ اللَّفْظِ كَانَ قَبِيحًا إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْهَا مُخَالِفًا لِظَاهِرِ اللَّفْظِ كَانَ جَائِزًا إلَّا عِنْدَ تَضَمُّنِ مَفْسَدَةٍ.

وَالْمَعَارِيضُ كَمَا تَكُونُ بِالْقَوْلِ تَكُونُ بِالْفِعْلِ، وَتَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَعًا، مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يُظْهِرَ الْمُحَارِبُ أَنَّهُ يُرِيدُ وَجْهًا مِنْ الْوُجُوهِ وَيُسَافِرَ إلَيْهِ لِيَحْسَبَ الْعَدُوُّ أَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ ثُمَّ يَكِرُّ عَلَيْهِ وَهُوَ آمِنٌ مِنْ قَصْدِهِ، أَوْ يُسْتَطْرَدُ الْمُبَارِزُ بَيْنَ يَدَيْ خَصْمِهِ لِيَظُنَّ هَزِيمَتَهُ ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ خِدَاعَاتِ الْحَرْبِ.

فَصْلٌ [النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْمَعَارِيضِ] : فَهَذَا أَحَدُ النَّوْعَيْنِ الَّذِي قِيسَتْ عَلَيْهِ الْحِيَلُ الْمُحَرَّمَةُ، وَالنَّوْعُ الثَّانِي: الْكَيْدُ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَكِيدَ بِهِ ظَالِمَهُ وَيَخْدَعَهُ بِهِ، إمَّا لِلتَّوَصُّلِ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ مِنْهُ، أَوْ عُقُوبَةً لَهُ، أَوْ لِكَفِّ شَرِّهِ وَعُدْوَانِهِ عَنْهُ، كَمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: «أَنَّ رَجُلًا شَكَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جَارِهِ أَنَّهُ يُؤْذِيهِ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَطْرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَفَعَلَ، فَجَعَلَ كُلُّ مَنْ مَرَّ عَلَيْهِ يَسْأَلُ عَنْ شَأْنِ الْمَتَاعِ، فَيُخْبَرُ بِأَنَّ جَارَ صَاحِبِهِ يُؤْذِيهِ، فَيَسُبُّهُ وَيَلْعَنُهُ، فَجَاءَ إلَيْهِ وَقَالَ: رُدَّ مَتَاعَكَ إلَى مَكَانِهِ فَوَاَللَّهِ لَا أُؤْذِيكَ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَدًا» .

فَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْمَعَارِيضِ الْفِعْلِيَّةِ، وَأَلْطَفِ الْحِيَلِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى دَفْعِ ظُلْمِ الظَّالِمِ.

وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ هَذَا الْجِنْسَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْحِيَلِ عَلَى اسْتِحْلَالِ مَحَارِمِ اللَّهِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>